لم ينقص وليد المعلم، أو من كتب «خطبة الوداع»، سوى أن يقول: قصفونا بالكيماوي، قصفونا بالبراميل المتفجّرة، دمّروا المدن والبلدات... وبذلك تكتمل الاتهامات للمعارضة، لأن تسعين في المئة من الارتكابات التي أوردتها الخطبة هي التي مارسها النظام ضد السوريين، فإما أن التقارير اختلطت لدى الكاتب وإما أنه اعتقد أنه يستطيع خداع الخارج. لم يكن خطاب دولة أو حكومة، كان خطاب جماعة أو عصابة تدّعي أنها تمثل دولة سورية وشعبها، بل خطاب طرفٍ لم يكن يحبذ اطلاقاً أن يوجد حيث تقاسمه المعارضة كطرف آخر تمثيل سورية وشعبها. جاء وفد النظام لينشر الحقد ويجهر بالوعيد للدول الداعمة للمعارضة، دافعاً بالاستفزاز الى أقصاه علّ شيئاً يحصل فتُنسف الجلسة ويتأجل كل شيء بل يُعاد التفاوض عليه، وبذلك يكسب بعضاً إضافياً من الوقت. لكنه تُرك يقول ما عنده مهما كان متمادياً، لأن الأهم أن يدخل التفاوض على «نقل السلطة»، أي على «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة»، وهو ما سيرفضه ويقاومه بكل شراسته الأمنية، وقد فعل مع بدء المفاوضات، غير أنه لا يستطيع ترهيب أحد في جنيف ولا يفيده «الشبيحة»، وعليه أن يتعاون في ايجاد حل سياسي ينهي حكمه عملياً. فالأمر منذ الآن يتعلّق بمستقبل سورية، وليس بمستقبل النظام. ولذلك فاللعبة واضحة: بمقدار ما تتقدّم المفاوضات في بلورة الحكم الانتقالي تقترب المعارضة من تحقيق أهدافها. وبمقدار ما يتمسّك الطرف الآخر ب «الأسد والنظام كخطٍّ أحمر» بمقدار ما يعرقل المفاوضات ويستعصي الحل بل يستحيل. حتى لو تأخر الحل، فإن «جنيف 2» هو إطاره والمكان الذي سينبثق منه. سواء تلكّأ النظام في التنازل أو بالغت المعارضة في شروطها، يحتاج الطرفان الى هذا الحل وعليهما أن يصنعاه معاً، بالشروط التي أصبحت معروفة، أو أنهما يتعرّضان لتدخل الثنائي الأميركي - الروسي. والمنطق يقول إنه ما دامت عملية جنيف قد بدأت، وما دام ثلاثي النظام وإيران وروسيا لم يتمكّن من فرض «محاربة الارهاب» على الأجندة، فإن ضغوط الدولتين الكبريين ستتعلق بما يجرى البحث فيه، أي آليات «نقل السلطة»، وهذا في مصلحة المعارضة التي ستكون لديها مشكلات كثيرة مع التفاصيل. غير أنها أيضاً مشكلات للنظام نفسه، فمن الواضح أنه وقع أخيراً في عملية لا يتحكّم بخيوطها ولا يسيطر على مسارها ولا يمكنه وحده فرض نتائجها. بالطبع يستطيع تخريب العملية برمّتها، وإذا نجح في ذلك، يزداد غرقاً وخسارةً. ربما اتضح الآن أكثر لماذا توجّب وضع شرط مسبق على ايران كي تُدعى الى جنيف. فهذا المؤتمر ثمرة التفاهم الاميركي - الروسي الذي انتج اتفاقاً على تدمير السلاح الكيماوي للنظام، وتبنّى مجلس الأمن هذا الاتفاق في صيغة قرار هو الوحيد الذي استطاع المجلس إصداره في شأن سورية خلال ثلاثة أعوام وحمل الرقم 2118. ولكي يبدو القرار متوازناً، اضطر الاميركيون والروس الى وضع نص بيان «جنيف 1» في صلبه. ومنذ لحظة صدوره، أدرك النظام أن حل أزمة السلاح الكيماوي الذي اعتبره خشبة خلاص له أصبح متلازماً مع الحل السياسي، وحاول إيجاد ثغرات في القرار يمكن أن تخدم بقاءه في السلطة، كأن يماطل في تسليم مخزونه، أو أن يسعى لدى موسكو كي تؤجل الشق السياسي الى ما بعد الانتهاء من تدمير أسلحته الكيماوية. لكن ايران هي التي وجدت له المنفذ، بالذهاب مجدداً الى حسم عسكري تعتقده ممكناً في ضوء خططها وحساباتها، وبسبب إحجام الدول الداعمة للمعارضة عن تسليح فصائلها العسكرية. والأرجح أنها ستضغط أكثر في اتجاه هذا الحسم بعدما حُرمت من حضور مناسبة دولية كانت فرصة ديبلوماسية عزيزة عليها. لكن إصرار الولاياتالمتحدة على أن تعلن ايران موافقتها على بيان «جنيف 1» لم يكن مجرد شرط تعجيزي مسبق، بل انطلق من معطيات سياسية محدّدة، أهمها أن روسيا نفسها توافق على ذلك البيان على رغم أن تفسيرها العلني له يختلف عن التفسير الاميركي الذي يرجّح تنحّي الاسد. لذلك لم يكن هناك داعٍ لأن تتحايل ايران كي تحضر وهي تجهر بعدم التزامها «نقل السلطة»، بل تعمل علناً على متابعة الحرب تحقيقاً للحسم، إلا اذا تغيّرت حساباتها. لم تصمد ورقة «محاربة الارهاب» في يد النظام ولم يجد سبيلاً الى تسويقها. ثمة سببان، أولهما أن قوات المعارضة بادرت الى محاربة عناصر تنظيم «داعش»، والثاني أن ال 55 ألف صورة ل 11 ألف شخص قتلوا تحت التعذيب والتي كُشفت عشية المؤتمر سلّطت الضوء على «ارهاب النظام». ولا شك في أن مضمون خطاب وفده في مونترو ساهم في «تطفيش» من يمكن أن يتحمّس لدور للنظام في محاربة الارهاب. ولا أحد ينكر وجود مجموعات ارهابية في سورية، ولا ضرورة مساهمة الجميع في ضربه، أما الاعتماد على النظام فمسألة اخرى. أكثر من ذلك، لم يغب عن أذهان ممثلي الدول المشاركة أن هناك، على العكس، دوراً للنظام في زرع هذا الارهاب كرافد له في حربه على معارضيه. فالوزير الاميركي جون كيري وصف استمرار الأسد في منصبه بأنه صار بمثابة «مغناطيس» جاذب للإرهاب. وإذ أظهرت بدايات التفاوض أن النظام يستخدم ورقة الارهاب ليتفادى ورقة «نقل السلطة»، على رغم أن المواقف الدولية بيّنت له الى أي حدٍّ لم يعد مؤهلاً لوضع نفسه في السياق الدولي لمحاربة الارهاب، فهذه قد تكون أولى أولويات الحكم الانتقالي، وبعد تسلّمه ادارة الجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات. خلافاً لتوقعات الكثيرين، بدا أداء وفد «الائتلاف» المعارض متناسباً مع المهمة الصعبة التي خطا اليها بكثير من الحذر والشكوك. قد يكون «الائتلاف» ارتكب أخطاء في مسيرته، لكنه أثبت أنه لم يذهب الى جنيف للارتجال، بل إن اللجان التي انكبّت على ملفات نقل السلطة استعدّت جيداً لهذه اللحظة، حتى أنها وضعت لكل استحقاق متوقع أكثر من سيناريو واقتراح. لذا لم يُفاجأ وفد المعارضة بضرورة البحث في اجراءات ل «بناء الثقة»، بل اندفع اليها علّه يفلح أخيراً في اختراق حصار حمص وإغاثة سكان لا يزالون فيها، وبدا طرحه أكثر واقعية من خطة عرضها النظام قبل اسبوع في موسكو لوقف النار وإدخال مساعدات الى بعض مناطق حلب. ويتصرّف مفاوضو المعارضة بمزيج من التصلب في المسائل المبدئية ومن البراغماتية في كل ما يخفف المعاناة الانسانية. هذا لا يعني أن المفاوضات ستكون سهلة في أيٍ من مراحلها وملفاتها، لكن الأكيد أن «جنيف 2» فتح المعركة السياسية على النحو الذي لم يرغب به النظام ولا ايران، لكنهما سيواصلان المراهنة على أن موازين القوى على الأرض هي التي ستتحكّم بالحل. في الداخل كما في الخارج استشعرت فصائل المعارضة، بمدنييها وعسكرييها، أن «الثورة» اكتسبت دينامية جديدة، وأنه كانت هناك مصلحة في الذهاب الى جنيف. يكفي أنه بات لدى النظام ما يخفيه بالنسبة الى مواقفه. فرئيس وفده المفاوض يبلغ الأخضر الابراهيمي قبول بيان «جنيف 1» أساساً للتفاوض، ووزير إعلامه يقول إن مسألة «هيئة الحكم الانتقالي» غير قابلة للتفاوض. وسيكون هناك المزيد من هذا التخبّط في القادم من الأيام، في انتظار أن يجد الأسد والإيرانيون وسيلةً لدفع المفاوضات الى الهاوية، تحديداً من طريق التصعيد العسكري. * كاتب وصحافي لبناني