يُخيّل، للوهلة الأولى، لمن يراقب السجال القديم الجديد في الأردن عن قضية «التجنيس»، أن الحرب لم تضع أوزارها بعد بين المكونين الأساسيين في المجتمع: الأردنيين ذوي الأصول الأردنية، والأردنيين ذوي الأصول الفلسطينية الذين حازوا الجنسية وانخرط بعضهم في المجتمع والدولة وإمارة شرقي الأردن منذ العشرينات. وعلى وقع ما يقال إنه مشروع لحل المعضلة الفلسطينية يحمله وزير الخارجية الأميركي جون كيري، اندلع النقاش المحتدم في أروقة الحكم وعلى منابر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حول أحقية أن يكون الأردن للأردنيين «الأصليين». وتثير المفردة الأخيرة التي وُضعت بين مزدوجين حيرة تاريخية لها نصيبها من الوجاهة، إذ إن سيلان الجغرافيا منذ مطالع القرن العشرين لم يوفر حدوداً جازمة لفكرة «النقاء» لسكان المنطقة الأصليين الذين يتحدّرون من مناطق حجازية وشآمية وعراقية وفلسطينية، فضلاً عن الهجرات السابقة للشيشان والشركس والأرمن والأكراد والدروز والمسيحيين، ما يجعل المجتمع في الأردن يتخذ شكل الفسيفساء التي تعكس التنوع، ما ينفي، من الوجهة المنطقية، فكرة النقاء، ويذرّرها! وإن تكن التوترات الحاصلة في المجتمع تعكس انقساماً في مسألة الحقوق المدنية والسياسية، فإنها تتوجّه إلى المكوّن الفلسطيني على وجه التحديد، لأنه الأكثر ثقلاً عدداً وعدة، وفق التقارير الأممية المتواترة، فضلاً عن كونه يثير «المخاوف» من استحواذ هذا المكوّن على أضلاع السياسة والحكم، ف «يضيع البلد من بين أيدينا، ونحن نتفرّج» كما كتب أحد المعلّقين على «الفايسبوك»! وعلاوة على خطة كيري، فقد دفع هذا السجال، الذي يشمّ فيه المرء رائحة الاحتراب بين قوات النظام والفدائيين الفلسطينيين في 1970، عزم حكومة عبد الله النسور الحالية منح أبناء الأردنيات المتزوجات من أجانب حقوقاً مدنية تشمل حق المعالجة في مستشفيات وزارة الصحة، والحصول على إقامة، وحق التعليم في المدارس الحكومية، وإفساح المجال أمامهم للتعليم الجامعي، ومنحهم حق العمل، والحصول على رخصة قيادة، وربما يُصار إلى منحهم جوازات سفر عادية، بلا رقم وطني لتسهيل سفرهم خارج البلاد. ويلاحظ أن هذه الحقوق كانت غائبة عن أبناء الأردنيات المتزوجات من أجانب (وغالبية هؤلاء «الأجانب» فلسطينيون)، ما عرّضهم لضغوطات جعلت حياتهم أشبه بالجحيم، حتى تبلور هذا التصوّر الذي يحقق الحد الأدنى من شرعة حقوق الإنسان، فثارت الدنيا، وتجدّدت الاتهامات، وخرجت المخاوف من أقبيتها، وخاب ظن من عوّل على أن فكرة العِشرة والمصاهرة والعيش المشترك والمساهمة في بناء الدولة، قد ذوّبت الاحتقان، أو بدّدت الشعور ب «فوبيا الآخر»، حتى أن مسؤولاً كبيراً في الدولة وجنرالاً سابقاً في الجيش ورئيساً أسبق للديوان الملكي الأردني أدلى بتصريحات قال فيها: «حقوق إنسان وحقوق المرأة والعدل والمساواة والقومية والدستور والوحدة الوطنية... كله حكي فاضي، اللي عاجبه حيّاه الله، واللي مش عاجبه طريقه خضرا. الله يسهّل عليه، طريق تصد ما ترد»! وجوبهت هذه التصريحات باستنكار واسع، ووصفت بأنها «عنصرية»، لكنها تعبّر عن مزاج عدد لا يستهان به من الأردنيين الذين ما انفكوا يختبئون وراء فزّاعة الوطن البديل، وطغيان المكون الآخر، واحتلاله البلد، بحيث أضحى «الأردنيون الأصليون» أقلية، إلى آخر هذه المعزوفة التي تبعث على السأم، وتعكس انقساماً اجتماعياً وسياسياً، أشبه بنار تحت الرماد لا يتوقّع أن تُخمد ما دامت المعضلة الفلسطينية تائهة البوصلة، وما دام الكيان الفلسطيني لم يتبلور بعد، وما دام التشظي بين رام الله وفتح ينذر بتقيّح الجرح الفلسطيني وتعفّنه! لكنّ للأمر وجهاً آخر يتصل بحقوق الإنسان من ناحية، وموضوعة المواطنة من جهة أخرى، وهما فكرتان تغيبان دائماً عند مناقشة مسألة المواطنين الأردنيين من أصل فلسطيني، وهذا ما يستدعي تعميق الجدل في شأنه، وفتح أبواب النقاش على مصراعيها، وطرح المخاوف بين الجانبين على الطاولة، والجهر بالمسكوت عنه، والتخلص من الخطاب المزدوج والانتهازي لبعض النخب السياسية من يُسمعون المرء ما يحب سماعه، لا ما يجب قوله وإشهاره. وتعيد مسألة الحقوق والامتيازات، التي كانت تحوزها النساء عبر التاريخ، التذكيرَ بالحقوق الفطرية للمرأة التي كان بمقدورها في حضارة بلاد الرافدين، قبل زهاء ألفي عام من ميلاد السيد المسيح، أن تتزوج من عبد، ومع ذلك يكون أبناؤها أحراراً! * كاتب وأكاديمي أردني