«قد تبدو هذه المسرحية في ظاهرها، للوهلة الأولى، دراما عائلية معنية بما يكون بين الأزواج والعشاق من هجر ووصل، ورضا وسخط وإنكار وإذعان. ولكن ذلك هو مجرد ظاهرها البادي، أما جوهرها فدينيّ صرف. فالدين الذي يعتنقه اليوت يقول إن الإنسان خاسر إذا كسب العالم وخسر نفسه، رابح إذا كسب نفسه حتى لو خسر العالم. وفي عصرنا الحديث تضاءلت مهمة راهب الاعتراف، الذي يصوّب خطى الناس ويرشدهم إلى الطريق الصحيح، واحتل مكانه رجل آخر لا يتحدث لغته وإن كان يقوم بدوره، وهو المعالج النفسي الذي يدعو الناس إلى التأمل في ذواتهم كي يعرفوا ما يريدون، فهم إن عرفوه أراحوا واستراحوا»... بهذه العبارات، تقريباً، قدم الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور ترجمته لمسرحية «حفلة الكوكتيل» لإليوت التي صدرت قبل ثلاثة عقود تقريباً عن سلسلة «المسرح العالمي» الكويتية، ضمن مشروع إصدار أعمال إليوت المسرحية الكاملة. والحال أن عبدالصبور لم يكن بعيداً من الصواب حين تناول هذه المسرحية، انطلاقاً من هذه الزاوية - الدينية الاعترافية - التي تحدث عنها. إذ إن كاتباً من طينة ت. أس. إليوت، ما كان يمكنه أن ينظر إلى مواضيعه، شعرية كانت أو نثرية، أو شعرية/ نثرية في الوقت نفسه، إلا على اعتبارها مدماكاً آخر في صرح عمله القائم على مفاهيم دينية، على رغم حداثته المطلقة. علماً أن هذا الجانب ندر التطرق إليه في أوساط «التحديثيين» العرب الذين تلقفوا إليوت كيفما اتفق وقلدوه منذ اكتشفوه، من دون أن يدركوا هذا الجانب الجوهري من عمله، أو يهتموا به. أنجز إليوت «حفلة الكوكتيل» أواخر أربعينات القرن العشرين، لتقدم للمرة الأولى في عام 1949 خلال مهرجان أدنبره، وتثير دهشة ورضا من ناحية، وسخطاً من ناحية أخرى، لا سيما بين الذين لم يدركوا الجوهر المتوخى من عمل يبدو على شكل مسرحية اجتماعية يصعب ربطها بالمسرحية الكبيرة التي كان إليوت قد فاجأ بها الحياة الثقافية الأنغلو - ساكسونية قبل عقد ونصف العقد: «مقتلة في الكاتدرائية». والحقيقة أن تعليق إليوت على ذلك الموقف من مسرحيته الجديدة كان بسيطاً ومحايداً: «إن كل عمل فني يبدو لي قادراً على أن تكون له تفسيرات لا تعدّ (...) وذلك لأن المؤلف ينجز عادة عملاً قد لا يفهمه هو نفسه... ومن هنا ذلك الالتباس الذي يحمله كل عمل ابداعي». ولكن مهما يكن من أمر فإن ما لا يمكن أن يفوت المتفرج الواعي على هذه المسرحية، أو القارئ النبيه لها - طالما أن هذه، من المسرحيات التي تُقرأ بمتعة بقدر ما تُشاهَد بمتعة -، هو أهمية التحولات التي تطاول شخصياتها، إذ إنها تنتقل تباعاً، في جلسة اجتماعية تبدو عادية ساذجة مغلقة أول الأمر، من الثرثرة الفارغة إلى المعرفة، ثم من المعرفة إلى النشوة، بينما نعرف منذ البداية أن هذه الشخصيات ما اجتمعت أصلاً إلا لكي تتناول كأساً وتثرثر حول أمور عادية. والحال أن هذه الحركة التحولية، هي أجمل وأقوى ما في «حفلة الكوكتيل»، فإذا فات مدلولها قارئاً أو متفرجاً، لن يجد هذا نفسه إلا أمام فراغ يعزز آراء مسبقة بإليوت، تبدو للمتعمق ظالمة على أية حال. مهما يكن فإن التعريف الذي وضعه إليوت لمسرحيته منذ البداية يصفها بأنها «دراما رمزية شعرية» ثم بأنها «كوميديا». أما موضوعها فيتمحور من حول السيد ادوارد تشامبرلين الذي يحدث له يوماً أن يدعو بعض أصدقائه، ومن بينهم سيليا كوبلستون إلى حفلة كوكتيل صغيرة في بيته. وحين يصل الحضور ويدهشون متسائلين لماذا تغيب زوجة تشامبرلين عن هذه الحفلة التي يقيمها الزوج ويجمع الأصدقاء، يقول المضيف إن أخت زوجته مرضت فجأة في بلدة ريفية فاضطرت الزوجة إلى السفر إلى عندها للاهتمام بها. ولكن بعد قليل، وإذ نتعرف تدريجاً إلى الضيوف، سيكون هناك واحد يقدَّم أولاً على أنه الضيف «المجهول» أو بالأحرى «غير المحدد الهوية»، ثم سندرك لاحقاً أنه في الحقيقة السير هنري هارتكورت ريلي، المحلل النفسي المعروف. وهو نفسه قسيس متصوّف يقدَّم أيضاً بكونه آخر من تبقى من آل هراقلس، أبطال مسرحية «»آلسيتس» ليوريبدس. وهذا المحلل النفسي هو الذي يلعب هنا، أمامنا، الدور الذي كان راهب الاعتراف يلعبه في الماضي، خصوصاً أنه «يدعو الناس إلى التأمل في ذوات أنفسهم» ليعرفوا ما يريدون. إذاً، حين يتضح هذا، لا يتأخر إدوارد تشامبرلين في إعلام السير هنري بأن زوجته في حقيقة الأمر قد هجرته، وأنه كان يموه الحقيقة حين زعم ذهابها إلى أختها في الريف. هنا، وبكل هدوء واطمئنان يؤكد المحلل النفسي لصاحب البيت أن الزوجة لافينيا، ستعود بالتأكيد. والحقيقة أن لافينيا سرعان ما تعود بالفعل... ويسود نقاش ما نفهم من خلاله أن لافينيا منجذبة إلى الشاب بيتر كويلب، بقدر ما ينجذب ادوارد إلى الشابة سيليا، التي تعيش تجاهه حباً صادقاً ونزيهاً. وبسرعة سندرك أن الخيانة الزوجية المزدوجة هنا إنما هي خيانة فكرية لا أكثر. وهو أمر يعرفه المحلل / القسيس جيداً. ومن هنا، إذ يدور المشهد اللاحق في عيادته وتحت إشرافه، يتضح لنا أن قوته الغامضة هي التي مكنت الزوجين من أن يتصالحا. وإثر ذلك يدور نقاش ديني عميق بين الحاضرين، لا سيما بين هنري وسيليا، هو في الحقيقة جوهر ما يريد إليوت أن يقوله في هذه المسرحية، خصوصاً أن السير هنري يصل، خلال النقاش وخلال محاولته إنقاذ أرواح أصدقائه هؤلاء إلى الافتراض بأن ثمة حلين أساسيين لمعضلة الوجود الإنساني: أول الحلين يكمن في «استخلاص ما هو الأفضل من قلب ما هو أسوأ» وذلك عبر التصالح مع الواقع... أما الثاني فيكمن في اختيار أسلوب عيش القديسين، أي الصدق ومجابهة الواقع بهذا الصدق. انطلاقاً من هنا يكون اختيار الزوجين واضحاً: إنه الخيار الأول: يتصالحان، ويعيشان في تصالح مع الواقع. أما الخيار الثاني فإنه الطريق الذي اختارته سيليا. فهي الآن قطعت علاقتها تماماً مع ادوارد، وقررت أن تتبع ما كان السير هنري قد أطلق عليه اسم طريق القديسين... أي سبيل الدين، ما يوصلها في نهاية الطريق إلى الزهد الكامل بكل متاع الحياة الدنيا. وتمضي الأيام، بل السنوات... وها نحن الآن من جديد إزاء الزوجين تشامبرلين وهما على وشك أن يقيما حفلة كوكتيل جديدة. وها هم الضيوف ذاتهم يظهرون أمامنا من جديد، باستثناء سيليا، التي سنعرف الآن أنها صارت راهبة، وأنها توجهت إلى جزيرة بعيدة من جزر خط الاستواء لكي تقوم بمهمة إنسانية. وسنعرف بسرعة أنها، في تلك الحياة القائمة على التضحية، تبدلت من فتاة تسعدها مسرات الحياة، إلى إنسانة تعاني الاستشهاد اليومي لكنها تشعر بالرضا التام إزاءه. وهو ما كان السير هنري قد تحدث عنه وتنبأ به على أية حال. مهما يكن فإن هذه المسرحية، التي تعتبر من أكثر أعمال توماس ستيرن إليوت (1888 - 1965) تعبيراً عنه وعن أفكاره في تلك المرحلة من حياته، لا تحسم الأمر بين الاختيارين، في شكل واضح... ولعل هذا ما أوجد فيها ذلك الالتباس الذي دفع اليوت إلى الحديث عن «التفسيرات التي لا تعدّ» للعمل الفني. غير أن ما اتفق عليه كثر إزاء هذه المسرحية، إنما هو كمية الملل الذي تسببه لمتفرجها - على عكس ما تفعل مع قارئها -، ذلك أننا أمام عمل ذهني، فوق خشبة لا يحدث عليها أي شيء سوى كلام متواصل، وكلام يحتاج إلى فكر عميق ليتابعه ويفهم كنهه. ومن هنا هجوم نقاد كثر عليها قالوا إن أهم ما فيها أنها «تدور» داخل رأس المشاهد... والمشاهد لا يحتاج إلى الذهاب إلى صالة مسرح حتى يجابه ما يدور داخل رأسه. وإليوت شاعر وناقد كبير إلى كونه كاتباً مسرحياً. ومن أشهر أعماله قصيدته الطويلة «الأرض الخراب»، ومسرحيات مثل «اجتماع عائلي» و «الصخرة» و «سويني يحتضر» وكلها أعمال ذات شكل، وأحياناً نفس شعري عميق. [email protected]