قلت أمس ان اللبنانيين كانوا أول من تنبه خارج أوروبا الى خطر الفاشستية والنازية وأسسوا في الثلاثينات عصبة مكافحة الفاشستية التي ضمت بعض قادة الفكر مثل انطون ثابت ومحمد علي حمادة وتقي الدين الصلح وجميل مكاوي. وسجل مؤرخ الذاكرة الشعبية اللبنانية سلام الراسي من ندوة عقدتها العصبة للتحذير من خطر الفاشستية والنازية قول زجّال لبناني للمشاركين: مْنحكي عا الفاشستية/ ومْننسى الإقطاعية وعا موسوليني وهتلر/ وعِنّا عا شكلنْ ميّة وقرأت ان بعض الحاضرين احتج على الزجال وطلب أن يقتصر الكلام على موضوع الندوة، وهو خطر الفاشستية والشيوعية، إلا أن تقي الدين الصلح تدخل قائلاً: دَعُوه يذكّرنا بواجباتنا الوطنية، إذ لا يجوز أن يشغلنا المهم عما هو أهم. العبارة الأخيرة دخلت قاموس السياسة اللبنانية وأصبحت مثلاً يردده الناس. لماذا تنبه اللبنانيون قبل غيرهم الى خطر الفاشستية؟ ربما كان الجواب في تاريخ العلاقة بين البلدين، فمع ان البلدان العربية عانت من ظلم الدولة العثمانية ورحبت بتركيا الفتاة ثم خاب أملها بسرعة، فإن الحساسية تجاه «الطليان» من عمر القرن الماضي كله. وإذا اخترنا تاريخاً محدداً فهو 24/2/1912 عندما وصل أسطول ايطالي الى بيروت وطالب باستسلام الطراد عون الله والنسّافة انقرة، من الأسطول العثماني. ورفض العثمانيون التسليم فضرب الإيطاليون الميناء وبيروت كلها وسقط حوالى مئتي قتيل وجريح مع تدمير كبير. كان الخلاف بين الدولة العثمانية وايطاليا في حينه يعود الى تنازع النفوذ في ليبيا، وقد انتصر اللبنانيون للدولة العثمانية وشعب ليبيا، كما انتصروا للأحباش سنة 1934 بعد هجوم القوات الإيطالية الفاشستية عليها، ما أدى الى فرار الامبراطور هيلاسيلاسي وإقامته في القدس بحماية البريطانيين، وكان جدي يعرفه وحدثني أنه أقام في مبنى لجمعية الشبان المسيحيين YMCA. وفي زيارتي اليتيمة لأثيوبيا سنة 1973 مع مجموعة صحافية عالمية، استقبلنا الامبراطور في قصره وذكّرته بإقامته في القدس وحديث جدي عنه وعن الامبراطورة، وقال وهو في قصر عظيم حديقته تتجول فيها الأسود، بعد غرفة في جمعية خيرية، ان ذلك كان قبل وقت طويل وقد نسي أكثر التفاصيل. ما أذكر من تلك المقابلة ان الامبراطور بدأ حديثه معي بالإنكليزية، ثم تحول الى الفرنسية عندما أشرت الى واجبه في الدفاع عن القدس كزعيم للأقباط الأرثوذكس ربما أملاً بألا أفهم ما يقول. أعود الى الطليان، فقد كان جدي يحكي لي أن سفنهم الحربية كانت تقترب من شواطئ لبنان وفلسطين خلال الحرب العالمية الثانية، كما كانت تفعل سفن النازيين، ثم تحاول قصف موقع فرنسي أو بريطاني، من نوع قنصلية أو ثكنة أو غيرها. كان جدي يقول انه إذا رأى الناس سفينة المانية يبقون في بيوتهم لأن مدافعها تصيب الهدف المقصود فقط، ولكن إذا رأوا سفينة ايطالية في عرض البحر يفرون خارج المدينة ويحتمون داخل المغاور والأودية لأن الطليان كانوا يصيبون كل شيء باستثناء الهدف. بما ان الفاشست والنازيين قضوا وهيلاسيلاسي وجدي عند ربهما و «الكذب على الميتين»، كما يقول المثل، فإنني أزيد ان ما سبق سجلته في زاويتي اليومية في حينه بشكل أو بآخر، وقد زدت اليوم تفاصيل وحذفت أخرى، إلا أن الأصول عندي كلها. اليوم لم يبق غير الاحتلال الإسرائيلي الهمجي وأنصار الفاشست والنازيين الجدد في اسرائيل من نوع برنار - هنري ليفي الذي كتبت عنه أمس، وعبارة «الحق عاالطليان» التي طلع بها الرئيس بشارة الخوري ليبرر كل خطأ أو تقصير، وهي ما يعادل شمّاعة اسرائيل وأميركا اليوم. ربما نحل مشاكلنا يوماً إذا اعترفنا بأننا المسؤولون عنها قبل الطليان وفرنسا وبريطانيا وأميركا وإسرائيل، غير أنني لا أريد ان أفسد الموضوع بحديث السياسة وإنما اقول ان الوقت حان لندفن خلافاتنا مع الطليان، فقد كانوا دائماً أخف وطأة من المستعمرين البريطانيين والفرنسيين، ثم انهم حتماً أخف دماً وأكثر ذوقاً، فروما متحف كما هي عاصمة، والأناقة عاصمتها ميلانو لا لندن أو باريس أو نيويورك. أترك القارئ مع زجل فلسطيني عن الأرض الضائعة: يا شجرة في البيت حاميكِ أسدْ وتكسرت الأغصان من كتر الحسدْ أنا زرعت الزرع جا غيري حصد يا خسارتو صار الوطن لغيرنا.