في حال أردنا نصح القارئ العربي برواية وحيدة من الروايات الغزيرة التي صدرت حديثاً في فرنسا، لما ترددنا في اختيار رواية «إلى حيث يدعونا الدم» (دار Seuil). فإلى جانب تشكيله نموذجاً رائعاً للسيرة الذاتية المكتوبة بصيغة رواية وهمية (autofiction)، يتناول هذا النص بجرأة وبصيرة نادرتين مواضيع مهمة راهنة، كالالتزام السياسي والعاطفي وخيار الراديكالية فيه، وسلطة العائلة أو روابط الدم. تنطلق أحداث «الرواية - السيرة» عام 2012 بلقاء صدفوي على «فايسبوك» بين شخصين حقيقيين هما الفرنسية كلوي دولوم التي اختبرت الإدمان والبغاء وحاولت مراراً الانتحار قبل أن تصبح كاتبة من الطراز الأول، ومواطنها الصحافي دانييل شنيديرمان المعروف بنزاهته المهنية ونقده الجريء لوسائل الإعلام. وما قرّب هاتين الشخصيتين الواحدة من الأخرى هو إعجاب شنيديرمان الشديد بموهبة دولوم الكتابية، وتشكيله، بصلابة شخصيته واستقامته، كتفاً نموذجية حلمت دولوم مراراً في الاتكاء عليها أثناء عملها إلى جانبه في السابق. وفور لقائهما، يقرر الإثنان خط كتاب مشترك تشكّل نقطة انطلاقه مأساة دولوم العائلية. فهذه الأخيرة كانت في العاشرة من عمرها حين أقدم والدها اللبناني على قتل والدتها الفرنسية والانتحار بالسلاح نفسه. وكما لو أن ذلك لا يكفي، يتبين لنا بسرعة أن هذا الأب هو الأخ الأكبر لأقدم سجين سياسي في أوروبا، ونقصد جورج ابراهيم عبدالله الذي أصبح بعد فترة قصيرة من هذه الحادثة العدو الرقم واحد للدولة الفرنسية بعد اتهامه بالتواطؤ في قتل ديبلوماسي أميركي وآخر إسرائيلي في باريس عام 1982 وبالوقوف خلف سلسلة التفجيرات التي شهدتها هذه المدينة بين عامَي 1985 و1987. وتشاء الصدف أن يكون شنيديرمان هو الذي غطّى هذه الأحداث آنذاك في صحيفة «لوموند». باختصار، شخصيتان مثيرتان تلتقيان ليس فقط على قصة حبهما الجميلة، بل على الرغبة في تتبّع مصدر العنف في عائلة دولوم، أي لبنان الذي لم تجرؤ الكاتبة على زيارته منذ ثلاثين عاماً. ووقوف شنيديرمان إلى جانب دولوم ساعدها على القيام بهذه الخطوة، علماً أن عواطفه النبيلة تجاهها ليست السبب الوحيد الذي سيدفعه إلى مرافقتها في هذه المغامرة، فبلوغ عين الإعصار في الشرق الأوسط هو تجربة لا تقاوم بالنسبة إلى صحافي من طينته. وهذا ما حصل في صيف 2012. ولكن قبل الوصول إلى لبنان، وتحديداً إلى بلدة القبيّات مسقط رأس والد دولوم، لا بد من قراءة ثلثي الرواية وعدد كبير من الفصول المرصودة لإنارة رهانات هذا السفر وتعريفنا إلى ماضي - ومعيش - هاتين الشخصيتين، كمرحلة المراهقة التي أمضتها دولوم في منزل خالها العنصري قبل أن تتحرر منه وتعيش حياةً بلا رادع تتزوج خلالها من الفيلسوف مهدي بلحاج قاسم وتتقرب من المجموعات الطلائعية التي كانت ناشطة في نهاية التسعينات من القرن الماضي، أو مجيئها إلى الكتابة باكراً للملمة أجزائها المبعثرة وابتكار كلمات قصتها التي علمت باكراً أنه عليها يوماً أن تسردها، أو نظرتها إلى قصة عمّها «الإرهابي» وقراءتها المثيرة والبصيرة لمسلسل الأحداث الدموية الذي ارتبط اسمه به وكشف خلفياته السياسية تدريجاً وطريقة تعامل الإعلام والقضاء الفرنسيين معه... وفي السياق نفسه، نطّلع على طفولة شنيديرمان التي تألم خلالها من انفصال أبيه عن أمه ومغادرته المنزل العائلي، وبالتالي تفسّر برودته تجاه الأحداث الكبرى التي عايشها والموقف الذي سيعتمده في البداية في المقالات التي رصدها لهذه الأحداث. أكثر من ذلك، يقارب الكاتبان بإسهاب في هذه الفصول موضوع العنف الجسدي والأخلاقي، داخل العائلة وخارجها، ونتائجه الوخيمة. وتفتننا هذه الرواية بتعانُق الحميمي والعام فيها وأيضاً بتشكيلها تجربة فريدة من نوعها في الميدان الروائي لتحاور أسلوبين مختلفين داخلها، أسلوب دولوم التجريبي والغنائي العنيف وأسلوب شنيديرمان الواقعي والموضوعي، كما تفتننا بطريقة تشييدها انطلاقاً من لقاء صدفوي بين كاتبين لن يلبث أن يتحول إلى لقاء مركزي وثابت داخل النص. فمن فصل إلى آخر، تتشابك قصصهما وتأملاتهما ضمن تنقّل دائم داخل الزمن يسلط ضوءاً كاشفاً على ماضيهما وحاضرهما. وبرقّة كبيرة لا تخلو من السخرية، يستحضر كل منهما الآخر أو الصورة التي شكّلها عنه ككائن حي ومعقّد لا بد من ترويضه وسبر جانبه الخفي: العائلة والوجه الحقيقي للأب، والعم المحظور والمحترَم معاً، بالنسبة إلى دولوم، والوضعية الصلبة والرواقية وهاجس الموقع الاجتماعي والاستقامة، بالنسبة إلى شنيديرمان، والالتزام ومشروعية السلوك الراديكالي للوفاء بهذا الالتزام، بالنسبة إلى الإثنين معاً. وفي هذا السياق، تظهر العائلة تحت ريشة دولوم كالفضاء الأول للكذب والتسلط وفقدان الفردية داخل المجتمع، قبل أن تلطّف نظرتها السلبية لدى زيارة عائلة والدها في لبنان على ضوء التعاضد الذي ستلاحظه بين أفرادها مقارنةً بتمزق النسيج العائلي والعزلة واللامبالاة التي يعاني منها الإنسان في المجتمعات الغربية. وفي السياق نفسه، تعيد النظر في المفهوم الإيجابي للفردية فترى فيه سبيلاً خطيراً إلى الأنانية المفرطة وسعياً محموماً وأعمى خلف مُتَعٍ لا تقود سوى إلى الفراغ. ويتحرر شنيديرمان تدريجاً أمام أعيننا من برودته ووضعيته الهجائية للانقضاض في شكل راديكالي على «ديكتاتورية الانفعال» داخل الإعلام وعلى سعي الصحافيين خلف المواضيع المؤثّرة، فاضحاً المصالح المتقاطعة للمسؤولين السياسيين وأصحاب الوسائل الإعلامية، وبالتالي تأثير بنية ملكية الصحف في مضمونها، ومبيّناً اتّباعية رؤساء التحرير البليدة وعملية تلاعبهم بالرأي العام وتواطؤهم مع حكومات بلدانهم في تغذية الخوف الذي يرى الصحافي فيه صناعة وطنية وبضاعة مطلوبة دائماً لا بد من تجديد مخزونها في شكل ثابت. راديكالية لن تلبث أن تكلّفه عمله في صحيفة «لوموند» ثم في قناة «فرانس 2» الرسمية وتدفعه إلى تأسيس موقع على شبكة الإنترنت لممارسة مهنته باستقلالية وحرية غير متوافرتين في وسائل الإعلام التقليدية. أما جورج ابراهيم عبدالله المسجون منذ 30 عاماً في فرنسا فيخيّم شبحه على كل صفحات الرواية كشخصية غير مرئية واستيهامية تجذب بطريقة مدهشة مجموع المواضيع المقاربة، وتتجلى على أثر ذلك كضحية لعبة سياسية، لئلا نقول مؤامرة، تتجاوز بكثير دوره الحقيقي في الأحداث الدموية المنسوبة إليه. وباختصار، نصٌّ صاعق بلغةٍ مزدوجة وبحبرٍ من دمٍ، يقع بين الشهادة والقصة الخرافية ويطرح كاتباه فيه كل الأسئلة الممكنة من دون أن يعثرا دائماً على أجوبة لها، ليواجها ماضيهما بشعرية ودعابة سوداء، من دون مواربة.