توقفت مصادر سياسية بارزة أمام المواقف التي أعلنها زعيم تيار «المستقبل» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري أول من أمس، وآثارها على المشهد السياسي الداخلي، الذي أخذ بالتبدل النسبي منذ أن أبدت قوى 8 آذار موافقتها على صيغة 8+8+8 بدلاً من إصرارها على صيغة 9+9+6 لتشكيل الحكومة. ورأت هذه المصادر أن الحريري كان واضحاً وقاطعاً في الالتزامات التي قطعها، فحدد سقفاً لتجاوبه مع الطرح الحكومي وتسهيله تسريع تأليف الحكومة الجديدة بقوله إن اشتراكه فيها يعني ربط نزاع مع «حزب الله» ونقل الخلاف الى طاولة مجلس الوزراء، وإصراره على «إعلان بعبدا» أساساً للبيان الوزاري للحكومة ورفضه القاطع لمعادلة الجيش والشعب والمقاومة، وعدم قبوله بالثلث المعطل لقوى 8 آذار وببقائه على موقفه المتشدد تجاه نظام الرئيس السوري بشار الأسد ودعم الثوار السوريين. واعتبرت هذه المصادر أن الحريري خاطب جمهور 14 آذار الذي فوجئ من تراجعه عن شرط انسحاب «حزب الله» من سورية وتسليمه المتهمين باغتيال والده للاشتراك معه في الحكومة، بتأكيده على «عدم التخلي عن هذين المطلبين» وتشديده على أنه «لا يفرقني عن 14 آذار إلا الموت»، مقابل انطباعات ظهرت في بعض الأوساط السياسية وحتى الديبلوماسية بأن هذا التحالف ذاهب إلى انفراط، ثم بتطمينه القوى المسيحية في هذا التحالف، وحتى الخصوم من القوى المسيحية بأنه «لا اتفاق رباعياً... ونقطة على السطر» في سعيه لتبديد المخاوف من استعادة هذا التحالف الذي قام في انتخابات 2005، بعد الانسحاب السوري الذي أعقب اغتيال والده. كما أنه خاطب الرأي العام المسيحي، الحليف والخصم، بالتأكيد على وقوفه في وجه التكفيريين والمتطرفين السنّة بقوله: «أنا مستعد أن أخسر» (لوقوفه في وجه التطرف). وبقدر ما خاطب بذلك أيضاً جمهور تيار «المستقبل» الذي ظهر في صفوفه تململ من تكرار التنازلات على مدى السنوات الماضية، بينما رموزه تتعرض للاغتيالات، وخاطب الجمهور العريض الذي يتجاوز تياره بإقراره بأن الناس تعبت وتريد العيش والكهرباء ولقمة العيش «ولا أستطيع ترك البلد هكذا (ذاهب الى الانهيار) وإلا أكون أغتال رفيق الحريري مرة أخرى». وترى المصادر السياسية البارزة أن الحريري خاطب جمهور «حزب الله» بلهجة واثقة عندما تلازم حديثه عن «القرارات الجنونية للحزب بالقتال في سورية» مع تأكيده أن هذا «لا يبرر التفجيرات» (التي ترتكب باسم تنظيمات تكفيرية متطرفة) مؤكداً أن «ما حصل (من تفجيرات) في الضاحية الجنوبية لبيروت وبعلبك (الهرمل) جريمة كبرى». جمهور المستقبل و14 آذار وفي رأي هذه المصادر أن الحريري أسقط في شكل حاسم الحجج التي يسوقها ضده قياديون من «حزب الله» و8 آذار بأنه وقوى 14 آذار يشكلون البيئة الحاضنة للتكفيريين، لا سيما حين دعا الى ترك «الجيش السوري الحر» يقاتلهم في سورية، وحين اعتبر أن الأسد هو الذي يكرس الكفر في ممارسات النظام ضد الشعب السوري. وترى المصادر البارزة وأوساط في قوى 14 آذار أن الشرح الذي قدمه الحريري لمواقفه الأخيرة كان شاملاً بحيث يفترض أن تستند إليه قيادات تيار «المستقبل» وقوى 14 آذار من أجل تفسير التوجهات الجديدة التي قرر الحريري اعتمادها لمواكبة الوضع الصعب في لبنان والحاجة الى الوفاء بالاستحقاقات الدستورية، خصوصاً انتخابات الرئاسة الأولى، من أجل شرح هذه التوجهات سواء لجمهورها أو لجمهور تيار «المستقبل» عبر وسائل شتى تنظيمية وإعلامية، خصوصاً أن الحريري تحدى الذين يزايدون عليه في الوسط السنّي وطلب من الجيش اللبناني أن يتصدى للذين يلعبون بأمن طرابلس، «كائناً من كانوا». وإذ تستنتج المصادر البارزة أن الحريري استعاد بكلامه المبادرة وزمام القيادة، سواء وسط جمهوره أو داخل قوى 14 آذار، فإنها ترى أن التحدي يكمن في ترجمة ذلك على الأرض لجهة استعادة تياره ما فقده نتيجة غيابه هو عن الساحة اللبنانية، لأن هذا يساعد على إجراء تعديل في المشهد السياسي الذي يبدو ذاهباً إلى خلط أوراق. وتتفق المصادر نفسها مع أوساط معنية بتأليف الحكومة من قرب، وديبلوماسيين غربيين يتابعون عبر لقاءات متواصلة مع الفرقاء، على الإشارة الى الانطباعات الآتية عن المشهد السياسي الراهن: 1- أن الحريري ساهم في مجمل ما قاله في تبديد المخاوف المسيحية من أن تأليف الحكومة بعد هذا التلاقي مع قوى 8 آذار على صيغتها الجديدة، ومن أن التوافق السنّي - الشيعي على إنهاء الفراغ الحكومي سيؤديان الى إهمال الرئاسة الأولى، باعتبار أن وجود الحكومة الجامعة التي سترى النور سيجعل الأطراف تستسهل الفراغ الرئاسي لأن جميع الفرقاء سيتمثلون في الحكومة التي ستتسلم صلاحية الرئاسة إذا لم ينتخب رئيس جديد. وأكثر المتخوفين من ذلك «التيار الوطني الحر» بزعامة العماد ميشال عون فضلاً عن بعض مسيحيي 14 آذار والبطريركية المارونية. إلا أن هذا الأمر يجب أن يستكمل -وفق قول ديبلوماسيين غربيين- بتجنب الإتيان برئيس ضعيف تتم إدارته من قبل فرقاء أقوياء... إذا انسحبت التسويات التي ستتبع الحكومة على الرئاسة بين الفريقين السنّي والشيعي. 2 - أن قوى 14 آذار بدت عرضة للخلافات في مقاربة الموضوع الحكومي على رغم أن ما قاله الحريري خفف من هذا الانطباع. لكن أياً من أطراف هذا التحالف قادر على تحمل مسؤولية تفجيره من الداخل، خصوصاً أن سبباً من أسباب التجاذب بينها هو الحسابات المتعلقة بانتخابات الرئاسة الأولى على الصعيد المسيحي. وهناك خيط رفيع يفصل بين هذه الحسابات عند الأقطاب المسيحيين من قوى 14 آذار، سواء رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أو رئيس حزب «الكتائب» الرئيس أمين الجميل أو المستقلون، وبين الذهاب بالتباينات نحو الانقسام أو الفراق. وفي اعتقاد بعض المراقبين للموقف من الاشتراك في حكومة مع «حزب الله»، أن ثمة تنافساً على من يستقطب الرأي العام المسيحي أكثر في هذا المنعطف الحكومي وفي التنافس على الرئاسة أو على التحكم بالعملية الانتخابية الرئاسية. وهو تنافس يتم أيضاً على وقع الخصومة مع تيار العماد عون. 3 - أن المداولات الجارية حول تأليف الحكومة أظهرت انسجاماً داخل قوى 8 آذار قياساً إلى الاختلافات بين أطراف 14 آذار سواء حول الموقف من الإصرار على الاتفاق مسبقاً على استبعاد مقولة الجيش والشعب والمقاومة في البيان الوزاري (كما يقول جعجع وبعض المستقلين) أو تأجيلها الى ما بعد تأليف الحكومة وفق ميل الحريري والرئيس المكلف تمام سلام والنائب وليد جنبلاط، وطبعاً الرئيس نبيه بري. وذهب الانسجام داخل قوى 8 آذار حد إبلاغها المعنيين أنها ملتزمة تأييد قيام الحكومة حتى لو بقي العماد عون على رفضه المداورة في الحقائب. وهو ما دفع الأخير إلى الاستقلال عنها في تفاوضه على حصته مع الرئيس سلام في عملية التأليف وإعلان الوزير جبران باسيل «أننا إذا وفقنا بين متخاصمين فليس كي يتفقوا على حسابنا ولإلغائنا». ويقود خلط الأوراق الذي أحدثه التقارب الجديد على تأليف الحكومة، الى توجه جديد لدى العماد عون يقضي بالانفتاح على تيار «المستقبل» في المرحلة المقبلة، وتعميق الحوار معه بدأ اعتماده قبل مواقف الحريري الأخيرة وسيتواصل بعدها.