منذ أن اندلعت ثورة 25 يناير اندفع قطاع لا يستهان به من النخبة السياسية والثقافية المصرية باتجاه ربط تلك الثورة الديموقراطية بمخططات التفتيت الطائفي التي تبنتها الإدارة الأميركية في عهد المحافظين الجدد. في هذا السياق تأتي الدعوى الرئيسية التي يطرحها هذا المقال، وهي أن الأرضية المعرفية لخطاب المحافظين الجدد ترتطم بأفكار وأطروحات النموذج الديموقراطي التي عرفها العالم منذ أكثر من ثلاثة قرون مع الثورات الديموقراطية في أوروبا، ومن ثم فإن مخططات التفتيت الطائفي لا يمكن أن تتقاطع مع ثورة 25 يناير إلا في حالة واحدة وهي فشل تلك الثورة في تدشين نظام حكم ديموقراطي حديث بفعل استدعاء القوى التقليدية في مصر لهذا الخطاب بهدف مواجهة خصومها من أنصار الديموقراطية. علاقة المفاهيم الديموقراطية بمشروع المحافظين الجدد تتسم بتناقض بنيوي واضح، فأطروحات المحافظين الجدد تمحورت حول نبذ القيم الديموقراطية التي تعارف عليها العالم منذ الثورتين الإنكليزية عام 1649 والفرنسية عام 1789، فالفيلسوف السياسي الألماني/الأميركي الشهير ليو شتراوس (1899/1973) الذي يعتبره كثيرون عراب تيار المحافظين الجدد، دشن أطروحة أساسية في كتابه الشهير «الحق الطبيعي والتاريخ»، هي أن فلاسفة اليونان القدامى مثل أفلاطون، كانوا يتسمون بالحكمة والدهاء، في حين أن فلاسفة الليبرالية المحدثين كجون لوك وجان جاك روسو اللذين نظرا إلى ثورات أوروبا الديموقراطية يعدان حمقى وغير مهذبين، بخلاف فلاسفة اليونان الذين تمثلت حكمتهم في الاعتقاد بأن الجماهير الشعبية غير الواعية غير مؤهلة لمعرفة الحقيقة ولا ممارسة الحرية. ومن ثم أكدت الفلسفة اليونانية حاجة المجتمعات إلى وجود نخبة من الفلاسفة والمفكرين لتكوين طبقة نبيلة تتولى قيادة الجماهير. لذلك كان طبيعياً في إطار سياق فكري ومعرفي كهذا أن يكنّ أفلاطون عداءً واضحاً للديموقراطية. وهو أمر أثار حفيظة منظري تيار العقلانية النقدية الذين ربطوا بين أطروحات الفلاسفة اليونانيين، وعلى رأسهم أفلاطون، وبين صعود النظم الفاشية بوجهيها النازي والشيوعي، انطلاقاً من مرجعيتهم الفلسفية الليبرالية التي تأسست على فرضية الحق الطبيعي في أن يحكم الناس أنفسهم بأنفسهم، بعكس الفلسفة اليونانية القديمة التي نزعت عن الإنسان العادي أي حق في الحرية. فالإنسان في نظر تلك الفلسفة لا يولد حراً ولا متساوياً مع غيره من بني البشر. ومن ثم فإن الحالة البشرية الطبيعية ليست هي الحرية ولكنها التبعية. يعتقد شتراوس على خلاف تلك التيارات الليبرالية، أن هؤلاء الفلاسفة القدامى كانوا على صواب في قولهم إن هناك حقاً طبيعياً واحداً هو حق النخبة في حكم العوام وحق القلة الحكيمة في حكم الغالبية. وهي الأطروحة نفسها التي أكدها شتراوس في كتاب مهم آخر هو «الطغيان» انطلاقاً من حق الأقوى في الحكم، كمبدأ للطغيان مستمد من تعاليم الكتب القديمة التي يجب أن تبقى سرية لسببين: الأول هو الحفاظ على مشاعر الناس، والثاني حماية النخبة من أي تمرد شعبي. ولعل الأمر المهم هنا أن أطروحات شتراوس تحولت من مجرد وجهات نظر شخصية إلى خط أيديولوجي متكامل عبّر عن نفسه من خلال أطروحات مفكرين سياسيين أميركيين آخرين ينتميان إلى تيار المحافظين الجدد. الأول هو آلان بلوم في كتابه «إغلاق العقل الأميركي»، والثاني فرانسيس فوكوياما في كتابه «الركود العظيم». واتفق كلاهما على أن الحريات الليبرالية الجديدة التي تحققت خلال حقبة الستينات هي أصل كل الشرور، لأنها أدت إلى الفجور المنذر بفساد أخلاقي واجتماعي يضرب المجتمع الأميركي بقوة مؤدياً إلى انتشار المخدرات والجريمة وانهيار الأسرة. التخلف يستدعي الهيمنة لكننا يجب أن نؤكد أيضاً، في ضوء الخبرة التاريخية المتعلقة بعلاقة الشرق بالغرب، أن التخلف السياسي والحضاري كان ولا يزال سبباً رئيساً في تدشين دعاوى الهيمنة الغربية على الشرق، بل إعطائها مبررات أخلاقية انطلاقاً من الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية ذاتها، فقد أكد الفيلسوف الليبرالي الإنكليزي جون ستيوارت مل في كتابه «عن الحرية» أن الاستبداد يصلح وسيلة مشروعة لحكم الأمم المتأخرة. ومن ثم وفر هذا الطرح الليبرالي الكلاسيكي الذريعة الملائمة للقوى الإمبريالية في حكم المستعمرات تحت شعار رسالة الرجل الأبيض في نشر حضارته الديموقراطية. بما يعني أن مفهوم الهندسة الاجتماعية الذي دشنته أطروحات المحافظين الجدد وتمثل في إلغاء الجذر التاريخي والقيمي للشعوب والمجتمعات الشرقية وممارسة سياسة إلحاق تلك المجتمعات عبر أمركتها والتشديد على تفكيكها إلى مكونات وطوائف وأعراق، كانت له جذور في الفكر الليبرالي الكلاسيكي أيضاً. إلا أن أطروحات المحافظين الجدد المعادية للديموقراطية أضافت متغيرين جديدين إلى هذا الطرح: المتغير الأول هو تفريغ الخطاب الليبرالي الغربي من مضمونه القيمي وطابعه الرسالي اللذين تمثلا في مبدأ نشر القيم الحضارية والديموقراطية في دول الشرق. أما الثاني فهو كبح جماح أية معارضة سياسية يمكن أن تنشأ في المجتمعات الغربية لمجابهة تلك الممارسات الإمبريالية وغير الإنسانية تجاه دول الشرق. ومن ثم فإن مواجهتنا نحن تلك الأطروحات الغربية يجب أن تتمحور حول تأكيد فرضية أساسية، وهي قدرة المجتمع المصري (أو مجتمعات عربية أخرى ثائرة) على استثمار ثورته في إنجاز تحول ديموقراطي حقيقي ينفي عنه تهمة التخلف الحضاري، ومن ثم فإن ربط الديموقراطية كقيمة سياسية وتاريخية إنسانية بتلك المخططات يمكن أن يتحول بمرور الوقت إلى حيلة نفسية يلجأ إليها الوعي الجمعي المصري لتبرير تعثر المسار الديموقراطي، أو رفض الديموقراطية ذاتها. وبالتالي يُعزل هذا التعثر عن عوامله الداخلية المتعلقة بتخلف البنية السياسية والاجتماعية والثقافية وشيوع الفكر الطائفي المتطرف، وهو عزل سيصحبه تراجع واضح للطلب الديموقراطي لدى عموم المصريين. وهنا تكمن خطورة هذا الربط القسري وغير الواعي للتناقضات الأساسية ما بين الديموقراطية بمعناها الشامل ومخططات التفتيت الطائفي، لأنه سيتحول بذلك إلى أداة تسكين ظاهرية وموقتة لأزمات ديموقراطيتنا المصرية الوليدة، لكنه سيُعمقها ويجذرها من منظورها البنيوي مشكلاً نقطة التقاء بين الثورة المصرية كظاهرة تاريخية ديموقراطية ومخططات التفتيت الطائفي، بفعل عرقلته لعملية بناء نظامنا الديموقراطي المأمول. بما يعني في النهاية أن تحويل أطروحة التفتيت الطائفي التي تبنتها الإدارة الأميركية في عهد المحافظين الجدد إلى فزاعة تستدعيها القوى التقليدية الخائفة من الديموقراطية لتبرير الممارسات القمعية الجارية الآن في مصر، سيخدم تلك الأطروحة ويؤكد فرضياتها على رغم تمترس تلك القوى في خندق مواجهتها. * كاتب مصري