على رغم تراجع القس الأميركي تيري جونز عن القيام بحرق المصحف في ذكرى 11 أيلول (سبتمبر)، إلا أن الأسئلة المتعلقة بحدث كهذا لا يمكن أن تتوقف. فالحدث الشاذ والشنيع أعاد طرح السؤال حول مدى رسوخ فكرة التسامح في المجتمع الأميركي، لا سيما وأن مفهوم التسامح شكل أحد البنود التأسيسية في المشروع الفكري للقوى الليبرالية التي نافحت ودافعت عنه منذ بدايات القرن السابع عشر في مواجهة مناخ التعصب والحروب الدينية التي مزقت القارة الأوروبية. ومن ثم مثلت أطروحة الفيلسوف التجريبي الانكليزي الشهير جون لوك في كتابه «رسالة في التسامح» أحد أبرز دعائم الفكر الليبرالي الذي نصبت الولاياتالمتحدة الأميركية نفسها بصفتها حامية له وحاملة للوائه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والإجابة عن هذا السؤال، تقتضي رصد التقلبات التي حدثت في المجتمع الأميركي في أعقاب هجمات 11 أيلول للوقوف على الأسباب التي أفرزت دعوى متطرفة كهذه في مجتمع كان يفترض حتى وقت قريب أنه قبلة لليبرالية وللتسامح. فقد برزت على المستوى الأيديولوجي في أعقاب 11 أيلول أطروحات عدة تدعو إلى نبذ القيم الليبرالية الأصيلة المتمثلة في التسامح الديني وقبول الأقليات. وتجدر الإشارة الى أطروحات اثنين من أبرز الفلاسفة والمنظرين الأميركيين وهما آلان بلوم وفرانسيس فوكوياما واللذان عرفا بصفتهما من أبرز منظري تيار المحافظين الجدد، كما عرفا بأنهما استلهما في تلك الأطروحات أفكار الفيلسوف الألماني – الأميركي الشهير ليو شتراوس الذي دعا بيقين مطلق إلى نبذ أفكار الليبراليين المحدثين، وعلى رأسهم جون لوك، في شأن الحريات العامة والتسامح الديني، داعياً إلى ترشيد الحريات التي تمثل الخطر الأكبر على المجتمع الأميركي. لذلك هاجم بلوم في كتابه الشهير «إغلاق العقل الأميركي» في الستينات التي شهدت حركة الدفاع عن الحقوق المدنية للسود وحركة الدفاع عن حرية المرأة وحقها في المساواة. وهو ما فعله فوكوياما في كتابه الشهير «الركود العظيم». وقد اتفق كلاهما على أن الحريات الجديدة التي تحققت خلال الستينات هي أصل كل الشرور لأنها أدت إلى الفجور المنذر بفساد أخلاقي واجتماعي يضرب المجتمع الأميركي بقوة، مؤدياً إلى انتشار المخدرات والجريمة والأطفال غير الشرعيين وانهيار الأسرة، والأخطر هو جعل المجتمع الأميركي هشاً أمام هجمات الإرهاب الأصولي عدو أميركا اللدود في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. أما على المستوى السسيولوجي فقد برز متغير جديد في المجتمع الأميركي ألا وهو ثورة الطبقة الوسطى الأميركية ضد الانحلال الأخلاقي المنتشر في المجتمع الأميركي ووسائل الإعلام، بما يخالف كلياً قيمها الاجتماعية وطبيعتها المترابطة، ما دفع أفراد تلك الطبقة إلى تلقف أطروحات بلوم وفوكوياما، خصوصاً أن انحطاط الوعي السياسي لتلك الطبقة لم يمكنها من الربط بين الرأسمالية المتوحشة والاستعمار وانتشار الانحلال الأخلاقي والإرهاب الأصولي، ما جعل من تلك الطبقة فريسة سهلة لأطروحات المحافظين الجدد المتمثلة في تقليص الحريات المدنية والعداء للإسلام بصفته منبعاً للإرهاب الأصولي. ما يعني أننا لسنا أمام حدث شاذ أو استثنائي ولدته ذهنية معقدة لقس متطرف بقدر ما نحن أمام واحدة من انعكاسات الايدولوجيا الجديدة التي تخلقت في المجتمع الأميركي إبان حقبة ما بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). فكما تكتلت الطبقة البورجوازية الأوروبية قديماً خلال القرن السابع عشر خلف مقولات الفلسفة الليبرالية الداعية إلى التسامح مع المخالفين في الرأي والعقيدة، فإن الطبقة الوسطى الأميركية تكتلت بعد أحداث أيلول خلف مقولات المحافظين الجدد التي تعتقد أنها تعبر عن قيمها وتتبنى الدفاع عن أمنها ومصالحها. ويبدو هذا منطقياً لمن خبروا الطبيعة التفكيكية التي تحكم الذهنية الأميركية خصوصاً والغربية عموماً، إلا أن المفارقة اللافتة هنا هي أن حجم الردة والانقلاب على القيم والأفكار الأميركية القديمة كان أكبر من حجم الخطر الذي مثله صعود الأصولية الإسلامية المتطرفة. فالفكر الليبرالي تمخض عن معركة تحالفت فيها البورجوازية مع الانتلجنسيا الغربية في مواجهة الإقطاع بصفته نظاماً سياسياً واجتماعياً مهيمناً على القارة الأوروبية خلال العصور الوسطى. إلا أننا الآن لسنا بصدد قوى اجتماعية وثقافية تصارع نظاماً قوياً ومهيمناً ومتكاملاً بقدر ما نحن أمام إمبراطورية ذات ثقل سياسي وأيديولوجي ومدججة بأحدث الأسلحة تطارد فلولاً إرهابية هاربة لا تمثل الإسلام والمسلمين بقدر ما تمثل نفسها. وهو ما دفع الرئيس باراك أوباما للقول في الذكرى التاسعة لأحداث أيلول بأن معركتنا مع «القاعدة» وليست مع الإسلام. ولكن السؤال هنا هو هل ينجح الرئيس أوباما في السيطرة الكاملة على رد الفعل الأميركي المنفلت سياسياً واجتماعياً على 11 أيلول؟ وهو سؤال ربما ترسم طريقة الإجابة عنه ملامح مستقبل علاقة أميركا والغرب بالإسلام والمسلمين. * كاتب مصري