لو سألت كثيراً من المثقفين، الكتاب منهم بشكل خاص، عن حرية الكتابة وأشكال الاضطهاد وأين تكون المعاناة على أشدها لما خطر ببالهم غير منطقتنا من العالم. سيتجه تفكيرهم إلى الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، بوصفها مرتع الاضطهاد والتوتاليتارية في مختلف أشكالها. من هنا قد تأتي الدهشة حين نقرأ لمفكر ألماني - أميركي كتاباً بعنوان «الاضطهاد وفن الكتابة» يطرح فيه مفهوماً نعرفه ولكننا سنستغرب أن يتحدث فيه أو عنه مفكر غربي: الكتابة بين الأسطر. فهذه بضاعتنا، ما اعتاد عليه الكتاب في العالم الموسوم بالثالث، ولم يعرفه – أو هكذا ظننا – كتاب الغرب بما يحوطهم من حريات وحقوق إنسان وديمقراطية، إلى آخر تلك المنظومة من المفاهيم. الكتاب الغربيون يكتبون فوق الأسطر أو على الأسطر وليس بينها، فما بينها مساحة تركت لغيرهم من كتاب العالم. لكن دهشتنا ستخف أو تتوارى حين ندرك الظروف التي ألف فيها ليو شتراوس كتابه حول أثر الاضطهاد على الكتابة (وهو غير ليفي ستروس الفرنسي، أبو البنيوية الأنثروبولوجية)، وكذلك حين ندرك خلفية الكاتب نفسه. إننا نتحدث عن عام 1952 وعن كتاب تبلورت أفكاره من فترة سبقت ذلك التاريخ الذي نشر فيه الكتاب، أي فترة الحرب العالمية الثانية، وشتراوس أحد الذين رأوا الاضطهاد رأي العين وإن لم يعانوا منه مباشرة. فقد ولد لأبوين يهوديين في ألمانيا عام 1899 وأكمل تعليمه هناك دارساً للفلسفة على يد كبار فلاسفتها آنذاك مثل هوسرل وهايدغر، ثم هاجر بعد ذلك من ألمانيا في بدايات الحكم النازي واستقر به المقام عام 1937 في الولاياتالمتحدة حيث درّس في مؤسسات جامعية مختلفة إلى أن عين أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة شيكاغو عام 1947 وحتى وفاته عام 1973. يعد شتراوس أحد كبار فلاسفة العلوم السياسية وتاريخ الفكر السياسي في النصف الأول من القرن العشرين، وقد تعالى ذكره في التسعينيات مع بزوغ نجم المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة بوصفه أستاذاً للكثير منهم ومنظراً للفكر السياسي الذي تبنوه والذي ترك أثره على سياسة الولاياتالمتحدة في فترة جورج بوش الابن. ويذكر في هذا السياق أنه كان يؤكد دائماً أن المعرفة وصناعة السياسة هي من اختصاص علية القوم، وأن العوام ليس لهم إلا القيادة فلا يقال لهم إلا ما يستطيعون فهمه، وإن كان من الضروري تزييف الواقع لقيادتهم فلا بأس. ومن هنا فقد قاوم الليبرالية السياسية ورأى أنها تنطوي على نوعين من النسبية العدمية إحداهما عدمية متطرفة ومدمرة مثل النازية الألمانية، والأخرى مخففة وتتمثل في الديمقراطية الغربية بما تدعو إليها من مساواة وإعلاء من شأن المتعة. ويعني هذا كله أن من الضروري للمجتمع أن يعود إلى الفكر السياسي الكلاسيكي، كما عند اليونان، الفكر الذي يمنح المفكر والنخبة المكانة العليا في قيادة المجتمع ويرى أهمية القيمة الأخلاقية في تشكيل الفكر سواء السياسي منه أم غير السياسي. من هذا الملخص الشديد الاختزال لبعض أفكار شتراوس قد يبدو من الصعب العودة إلى مسألة الاضطهاد وشكوى شتراوس منها، لأن من يرى الخلل في قيم مثل الديمقراطية ينبغي أن يتوقع المزيد من الاضطهاد. وهذا صحيح لولا أن شتراوس يريد الديمقراطية ولكن للمتساوين من النخبة الفكرية وليس للجميع، أي لمن يستطيع الإفادة منها بقيادة المجتمع وصناعة الفكر في كافة المجالات. أما الاضطهاد فهو ذلك الذي قد يقع على تلك النخبة ويعيقها عن أداء مهمتها القيادية. يعود شتراوس إلى تاريخ الفكر ويجد نماذج كثيرة من ذلك الاضطهاد ليس في تاريخ أوروبا وحدها، وإنما في تاريخ الحضارة الإسلامية أيضاً، ويرصد في تتبعه الكيفية التي قاوم بها المفكرون مظاهر الاضطهاد الواقعة عليهم. وحين يقول شتراوس الاضطهاد فإنه لا يعني ما يأتي من السلطات السياسية أو الحاكمة، بقدر ما يشير إلى ما تفرضه العامة أو الفكر العامي ومنها الفكر الديني الذي يقاوم الفكر النقدي الحر. فما الذي فعله المفكرون الكتاب في مواجهة ذلك الاضطهاد؟ لقد ابتدعوا تقنيات في الكتابة تمكنهم من قول ما يريدون لمن يريدون دون أن يقعوا تحت طائلة العوام وسلطتهم القمعية. اخترعوا الكتابة بين الأسطر، أو التعمية على القارئ البسيط من أجل التعبير عن أفكارهم والتخاطب مع نظرائهم. يجد شتراوس نماذجه في مختلف العصور ومنه العصر الحديث طبعاً، وفي الغرب نفسه، لكن ما يسترعي انتباهنا بشكل خاص هو ما يجده المفكر الألماني في تاريخ عالمنا العربي الإسلامي. فقد درس شتراوس كتب الفلاسفة المسلمين ووجد نماذج من تأثير الاضطهاد عند فلاسفة مثل الفارابي الذي يقول عنه شتراوس إنه كان يشرح آراء أفلاطون لكنه ما يلبث أن ينسب له أفكاراً هي في الواقع أفكاره هو أي الفارابي وليس أفلاطون. تلك الأفكار كانت مما لم يكن الفارابي قادراً على قوله مباشرة ونسبتها لنفسه. كانت الرقابة تعمل عملها وتوجه اختياراته في التعبير. وبالطبع لم يكن الفارابي بدعاً في ذلك، حسب شتراوس، وإنما واجه الوضع نفسه مفكرون آخرون منهم اليهود مثل ابن ميمون، إلى جانب مفكرين في التاريخ الأوروبي الحديث. حين يتحدث شتراوس عن العصر الحديث فإنه بالتأكيد يرى الاختلاف الهائل الذي حدث في المجتمعات الديمقراطية الغربية وتراجع الرقابة والاضطهاد إلى حدود دنيا، لكنه في الوقت نفسه يرى أن هذا لا يعني غياب الاضطهاد بالكلية، فهو يؤكد أن «عبارة اضطهاد تغطي ظواهر متنوعة، تمتد من النوع الأشد قسوة، كما يتمثل في محاكم التفتيش الإسبانية، إلى النوع الأخف والمتمثل في العزل الاجتماعي»، وهذا الأخير ظاهرة معروفة وواضحة لمن يتأمل المجتمعات الغربية وقدرة القوى المتحكمة في المجتمع، سواء سياسياً أم غير ذلك، على إبعاد من لا ترغب في توجهه. وإن نحن أمعنا النظر وجدنا أنفسنا قريبين مما يسميه المفكر الفرنسي ميشيل فوكو بالخطاب وهيمنته في شتى المجالات إلى حد العزلة والإبعاد التي يفرضها على الخارجين على قوانينه. أما ردة الفعل إزاء تلك الهيمنة بأشكالها المختلفة فقد تكون فعلاً كما قال شتراوس: الكتابة بين الأسطر، ويبدو أن هذا مهم لدراسة الناتج الثقافي والإبداعي ليس فقط في مجتمعات لا تزال تعاني مما عانى منه الفارابي قبل ألف عام، وإنما في مجتمعات يفترض أنها أكثر تسامحاً وانفتاحاً، مجتمعات تعاني مما يتحدث عنه شتراوس وفوكو.