«أتمنى لو كنت حبشياً» يقول محمد (26 عاماً) معرباً عن قلقه من سوء الأوضاع المحيطة به. فانتماؤه إلى منطقة ردفان الجنوبية وزواجه بفتاة شمالية يجعلانه في وضع نفسي سيئ وحال قلق دائم، ذاك أنه ومنذ اندلاع ما عرف ب «الهبة الحضرمية» نهاية العام الماضي وطرد شماليين يعملون في الجنوب وإجبار بعضهم على ترك زوجاتهم الجنوبيات عادت مشاعر الكراهية والتوتر بين اليمنيين إلى البروز. ويعمل محمد بائعاً في محل للهاتف الخليوي في صنعاء لكن أبناء منطقته يعتبرونه خائناً للقضية الجنوبية وفق قوله. ويكرس الصراع السياسي الولاءات الصغيرة ويعوق بناء قيم الحوار والتعايش فيما يكشف الجدل الدائر حالياً حول الفيديرالية كنظام للدولة اليمنية الجديدة، عن توجهات لا عقلانية لدى الأجيال الجديدة، ما يؤكد إخفاق النظام التعليمي الذي عرفته البلاد منذ ما يزيد عن نصف قرن في تحرير الثقافة العامة من براثن التبعية. وعلى رغم موجة الرفض التي قوبل بها مقترح الدولة الاتحادية، إلا أن استطلاعاً للرأي نشرت نتائجه الأسبوع الماضي أظهر أن 56 في المئة من اليمنيين لم يسبق أن سمعوا بالفيديرالية أو الدولة المكونة من أقاليم، ما يعني أن غالبية المواقف الرافضة للنظام الفيديرالي لا تقوم على معرفة بالموضوع، بل جاءت تلبية لحملة قادها سياسيون ورجال دين قد تتضرر مصالحهم نتيجة إعطاء صلاحيات واسعة لسلطات الأقاليم. ويتعلق بعض تلك الصلاحيات بإبرام اتفاقيات النفط والغاز حيث تنص وثيقة حلول وضمانات القضية الجنوبية التي وقعت عليها أخيراً جميع المكونات، أن يكون إبرام عقود الاستكشاف والتطوير من اختصاص سلطات الأقاليم المنتجة بالتشارك مع السلطة الاتحادية. وكان الصراع على عائدات النفط من أسباب تفكك النظام السابق ودورات الاقتتال التي شهدتها البلاد. وينظر إلى القتال الدائر حالياً في منطقة دماج ومناطق أخرى باعتباره استمراراً للصراع القديم - الجديد بين شيوخ القبائل وفئة السادة الهاشميين الذين حكموا شمال اليمن لما يزيد عن ألف عام، أكثر منه صراعاً بين السنّة والشيعة وفق ما ترى الطالبة في جامعة صنعاء ليلى حسان. وما انفكت الصراعات السياسية العنيفة تنهض وتتغذى على ثقافة الاتباع والعصبية التي لا يبدو أن نظام التعليم الذي شهدته البلاد على مدى ما يزيد عن نصف قرن قضى عليها. والمفارقة أن بين المعارضين لوثيقة تشكيل دولة اتحادية تتكون من أربعة أقاليم في الشمال وإقليمين في الجنوب هم من عارض النظام السابق واتهموه بالمركزية واحتكار السلطة. ولئن قيض لمؤتمر الحوار الوطني المقرر أن ينهي أعماله هذا الأسبوع أن يخرج بوثائق يمكن أن تؤسس لدولة يمنية ديموقراطية، بيد أن هذا لا يعني أن طريق المستقبل صار مفروشاً بالورود، خصوصاً مع تفشي الأمية وضعف وعي المتعلمين وانتهازية القيادات السياسية والزعامات الدينية والقبلية التي أثبتت التجارب أنها لا تتورع عن طعن قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان لحماية مصالحها. وتلفت ليلى حسين إلى النموذج النظري المتقدم الذي حمله دستور الجمهورية اليمنية واتفاقية الوحدة بين الشمال والجنوب عام 1990، وتقول: «على رغم ذلك نحرت الديموقراطية على أيدي العسكر والقبائل ولم يعرف اليمن حروباً وصراعات مدمرة كما حصل خلال الفترة الماضية»، مرجعة ذلك «الجهل الثقافي والسياسي إلى الشعب نفسه وتشرذمه بين قوى النفوذ التي لا ترى فيه سوى «جمل معصرة ووقود لمعاركها». ويرشح من خطابات المؤيدين والمنتقدين لنتائج مؤتمر الحوار الوطني وقوفهم جميعاً على أرضية واحدة هي «العاطفة». ويسخر الخريج الجامعي يونس عثمان من الجماعات التي تدعو إلى «إنقاذ الثورة»، ويقول: «الثورة ليست دجاجة أسيرة حتى نحررها من خاطفيها، فالشعب الذي ينجز ثورة قادر على أن ينجز ثورة ثانية وثالثة وعاشرة بالعمل وليس بالشعارات». وكان مؤتمر الحوار الوطني أخفق في إقرار يوم 11 شباط (فبراير) وهو اليوم الذي اندلعت فيه الانتفاضة الشعبية المطالبة بإسقاط النظام في 2011، يوماً وطنياً. وخلافاً لكثير من الشباب ترى ليلى حسان في الإخفاق مؤشراً إيجابياً، وتقول: «يكفي أننا ظللنا منذ 1948، نطلق على الانقلابات العسكرية مسمى ثورات لنكتشف بعد 50 عاماً أن لا ثورة ولا جمهورية وأن الممسك بزمام الحكم مجموعات عائلية وعشائرية». ويتخوف كثيرون، لا سيما الشباب من ألا ينهي تحول اليمن إلى دولة اتحادية نزعة العنف والكراهية. وتتوقع حسان أن تمثل الأقاليم صورة جديدة للعشائرية، مؤكدة أن «قيم الديموقراطية والمدنية لا تأتي بها خريطة التقسيم الإداري، بل تنتج من وعي ثقافي يقوم على الفردية لا على الجماعية الهوجاء». ويرى عثمان أن الدولة الاتحادية تبدو الحل الناجع لحال اليمن، لكنها لن تمنع على المدى القريب من ظهور نخب مهيمنة ومتسلطة على مستوى الإقليم الواحد، خصوصاً مع استمرار شيوع العلاقات الأبوية وتفشي ثقافة التبعية السياسية.