قد لا يكون صحيحاً ان النقد السينمائي العربي الجاد قد ولد مع سمير فريد، فقبله كان هناك كثر يكتبون عن السينما وأفلامها في مصر ولبنان وبلاد المغرب، ولكن من المؤكد في المقابل ان سمير فريد نفسه كإسم بارز في الثقافة العربية والسينمائية منها على وجه الخصوص، قد وُلد مع النقد والفكر المتمحورين من حول الفن السابع. مسيرة هذا الكاتب المصري الشاب دائماً والمتدفق الى حد الشغف في اي حديث عن السينما، تقترب اليوم من إكمال عامها الخمسين. فهو بدأ ينشر مقالاته في الصحف المصرية ثم العربية أوائل سنوات الستين الزاهية والتي شهدت ولادة الفكر التقدمي العربي كما ولادة الكتابة عن السينما في علاقتها بالمجتمع. ومنذ ذلك الحين وسمير فريد حاضر يكتب ويصدر الكتب ويتابع المهرجانات ويُستشار في شؤون السينما من دون انقطاع، وذلك الى جانب نحو عشرة من زملائه ومجايليه العرب. وفي خضم ذلك، بدأ تكريم سمير فريد يتفاقم كوجه ثقافي عربي بارز. وهو تكريم يفرحه لكنه يخيفه في الوقت نفسه، بخاصة ان الرجل الذي بالكاد يبدو عليه دنوه من السبعين لا يزال في أوج عطائه وقد اضاف الى اهتماماته السينمائية اهتمامات سياسية يعبّر عنها في مقالات متواصلة تدافع عن مصر وحضارتها ونقاء مجتمعها وفنونها... لمناسبة تكريمه في مهرجان دبيّ السينمائي، كان ل «الحياة» هذا الحوار مع سمير فريد. كرّمك مهرجان دبي السينمائي بمنحك «جائزة انجازات الفنانين» في سابقة بالنسبة الى ناقد سينمائي لا فنان. هل ترى في الامر اعترافاً بمهنة النقد السينمائي في العالم العربي؟ - أشعر بأن هذه اللفتة هي تكريم للمهنة ككل لا تكريم شخصي فحسب. كما انني لا أنظر إليها كاعتراف بالنقد السينمائي لأن هذه المهنة موجودة سواء اعترفوا بها ام لا. هي لفتة قوية تضع الناقد في موقعه الطبيعي لأنه جزء من صناعة السينما. وبالتالي بمقدار ما لم يكن طبيعياً أن يعتبر النقاد خارج التكريم، بمقدار ما كان التكريم أمراً طبيعياً. ماذا يعني لك أن يأتي التكريم من دبي؟ - هو أمر مهم جداً، خصوصاً أن الإمارات تقود الحداثة اليوم في منطقة الخليج، ما ينعكس إيجاباً على المنطقة العربية ككل. فمدينة مثل دبي، تحتضن جنسيات عربية كثيرة، لا يمكن ان تصدّر أفراداً بأفكار بالية أو متعصبة حين يعودون الى ديارهم، بل أفراداً يتمتعون بأفكار تخدم المنطقة. الامر يشبه الى حد كبير ما كان ينطبق على مصر في الماضي حين كان لجامعة القاهرة فضل على المنطقة، بتخريج كل رواد الثقافة والتحديث. ثم إن اهمية الحداثة في الخليج أصبحت تهمّ العالم كله بعد 11 أيلول (سبتمبر) حتى لا يتكرر مثل هذه الأحداث. طبعاً، هناك أبعاد كثيرة لوجود الفن السابع في السنوات العشر الأخيرة في هذه المنطقة، خصوصاً انه لا يوجد رمز للحداثة أكبر من السينما. فهي ليست فقط فناً جميلاً ومتعة مشاهدة أفلام، بل تعني أيضاً تغييراً في العلاقات الاجتماعية وعلاقة مختلفة بين الرجل والمرأة، فمن غير الممكن أن تنتج الأفلام من دون نساء. على صعيد آخر، السينما تعني ايضاً أن تكون لدى الشعب الشجاعة لمشاهدة عيوبه على الشاشة. وأعتقد أن لهذا السبب وجدت السينما في مصر قبل الدول العربية الأخرى. فبعد ثورة 1919 صارت عند المصريين ثقة بأنفسهم لمواجهتهم الاحتلال البريطاني، وتمكنوا من وضع دستور عام 1923 ونجحوا في ثورتهم، وبالتالي حين وجدت السينما سنة 1927 لم يخشوا من رؤية امرأة منحرفة على الشاشة أو قاضٍ مرتشٍ أو ضابط شرطة فاسد. ثورة الذهنيات هل ترى ان في استطاعة السينما أن تحدث ثورة على صعيد الذهنيات؟ - بالتأكيد. السينما هي فن مدينة، والمدينة الحديثة هي التي توجد فيها سينما لأنها تعكس هاتين الحقيقتين (العلاقات الاجتماعية والشجاعة برؤية صورتنا على الشاشة) ومجموعة حقائق أخرى. فالسينما لا تعني صورة سياحية زاهية وعلاقات بين ملائكة. وفي اعتقادي أن أكبر نجاح للسينما المصرية يتمثل في تسلل عبارات الأفلام الى الحياة اليومية. ففي أحد الأفلام مثلاً، جسد اسطفان روستي دور نائب رئيس عصابة يُردى من طريق الخطأ على يد رئيس العصابة، فيقول له روستي وهو على فراش الموت: «نَشِنت يا فالح». وسرعان ما اضحت هذه الجملة تقال في الشارع للحديث عن نيران صديقة. والامر ذاته يقال عن عبارة «مبروك يا علي انت بقيت من الأحرار يا علي» التي ترددت في فيلم «رد قلبي» أو عبارة «أخدها الوبا» في فيلم «دعاء الكروان». الأمثلة كلها التي سقتها مأخوذة من أفلام قديمة، هل يعني هذا ان السينما المصرية الجديدة ليس لها مثل هذا التأثير الشعبي؟ - في الحقيقة، آخر عبارة من هذا النوع سمعتها هي التي قيلت في «المومياء» (انتاج 1969): «سيأتي سليم آخر». فبعد «ثورة يناير» وحين كان الإحباط يراود صديقنا سيد فؤاد مع تعيين وزير أسوأ من سابقه، كان جوابه دائماً «سيأتي سليم آخر». الأفلام الحديثة ليس لها هذا التأثير الشعبي، وقد لا يتعلق الأمر بضعف فيها ولكن لعدم وصولها الى الجمهور، خصوصاً أن الأفلام القديمة تعاد كثيراً على الشاشة. على من يقع اللوم في إفساد ذائقة الجمهور المصري؟ - عوامل كثيرة أدت الى إفساد ذوق الجمهور او تراجعه مقارنة بجمهور الستينات والسبعينات، أولها الصحافة، وتحديداً الصحافة اليومية كونها مؤثرة أكثر. فباستثناء ملحق السينما في صحيفة «الحياة»، كل الصفحات الأخرى التي تدنو من المادة السينمائية في العالم العربي، تتعامل معها باعتبارها مادة لتزيين الصفحة بصورة ممثلة جميلة. وهذه كارثة كبرى. أما البرامج التلفزيونية فلا يوجد برنامج واحد أستطيع ان أخرج بعد مشاهدته بجملة مفيدة. حتى القنوات الرصينة التي تلاحق أخبار السياسة والاقتصاد، حين يصل الأمر الى السينما، يختلّ إيقاعها، ما يخلق وعياً عند الناس بأن السينما كلام فارغ. ترأست مهرجان القاهرة السينمائي في توقيت سياسي صعب. الى أي مدى كان قرار إلغاء الدورة الماضية تحدياً بالنسبة إليك؟ - لم أكن أنا من ألغى الدورة الماضية، علماً ان اسباباً كثيرة أدّت الى استحالة إقامتها، إذ تسلّمت مهامي في 6 آب (أغسطس) الماضي، وفي الأول من آب، كان «اتحاد النقابات الفنية» (يضم السينمائيين والممثلين والموسيقيين) و «غرفة صناعة السينما» (تضم المنتجين والموزعين ودور العرض)، قد اتخذا قراراً مشتركاً بتأجيل المهرجان. فهل يعقل ان أعود وأقيمه ضد إرادتهما؟ الأمر الثاني انني تصوّرت ان هناك عملاً نُفّذ طوال العام، وبالتالي ستكون هناك أفلام مختارة، لكنني لم أجد إلا 25 فيلماً فقط، منها 10 من المكسيك. وسرعان ما اكتشفت ان آخر موعد للاشتراك في المهرجان كان 15 أيلول، أي امامي شهر واحد فقط لاختيار البرنامج. طبعاً ممكن ان نعدّ لمهرجان في شهر، ولكن أي مهرجان سيكون؟ ثم جاء يوم 4 آب حين فُضّ اعتصام رابعة، وحذرت دول كثيرة رعاياها من عدم المجيء الى القاهرة، ليضع عائقاً جديداً في وجه المهرجان، فكان قرار التأجيل، علماً انه تأجل في 2011 ولم يسبب الأمر أي مشكلة، فلماذا تكون هناك مشكلة في 2013؟ لماذا إذاً حذّر بعضهم من إمكان خسارة المهرجان تصنيفه الدولي في حال إلغاء دورته الأخيرة؟ - أولئك الذين يريدون إقامة أي مهرجان روّجوا للموضوع في الصحافة. قد تكون نيتهم حسنة، لكنّ الاتحاد الدولي لم تعد له الأهمية ذاتها التي كانت له في الماضي، إذ أضحت ادبية بحتة. فمثلاً في مراكش يُقام مهرجان دولي جيد من دون ان يكون عضواً. ثم ان الاتحاد أقيم ليُصنّف المهرجانات، ويجنّبها الفوضى بالتنظيم والتنسيق في ما بينها وحماية حقوق المنتجين والنسخ. والدليل ان دورة عام 2011 ألغيت ولم يعترض أحد على ذلك. كما توقف مهرجان البندقية 11 سنة بسبب الحرب من دون ان يتغير شيء. باختصار من روّج للفكرة هم انصار ضرورة إقامة المهرجان حتى ولو خرج بصورة سيئة، ولا اخفي ان هناك بعض المستفيدين مالياً. أيّ فساد؟! هل تعني أنه كان هناك فساد في مهرجان القاهرة؟ - حين تسلّمت مهامي، طلبت موازنة السنوات العشر الماضية. والمضحك ان المسؤولين في المهرجان قالوا لي انها في الوزارة وفي الوزارة قالوا انها في المهرجان، فلم يكن امامي إلا التوجه الى مراقب الحسابات، وبالفعل سلّمني الموازنات. أنا لا أستطيع أن اتهم أحداً بالفساد. كل ما يمكن ان أقوله ان المهرجان ليس فقيراً، فموازنته تصل الى 14 مليون جنيه في السنة، والرقم يعادل 14 مليون يورو في فرنسا، لأن ما يمكن شراؤه بيورو في فرنسا تشترينه بجنيه في مصر. وهو رقم جيد جداً لإقامة المهرجان خلافاً للصورة التي كانت تقدم حول انه مهرجان فقير، وبالتالي أتوفع ان نقدم عملاً مشرفاً إن لم تقف امامنا معوقات بيروقراطية وسياسية. ما الاسباب التي دفعتك لمقاطعة المهرجان لسنوات؟ - هي ليست قطيعة متعمدة. كل ما في الامر انني كنت منزعجاً لأن غالبية المخرجين الذين أعرفهم كانوا يشتكون من كثير من الأمور اللوجستية، مثل الإعلان مثلاً عن عرض فيلم في ساعة معينة ثم تغيير الموعد من دون إعلام أحد. وبالتالي، لم يكن المهرجان بالنسبة إلي أكثر من فرصة للقاء أصدقائي وكانوا (يقول ضاحكاً) يكلفونني كثيراً، إذ كنت أقول دوماً مهرجان القاهرة يدعو وأنا أدفع. ما هو تقويمك للأفلام التي انتجت عن «ثورة يناير»؟ - للأسف لم أحظ بفرصة مشاهدة «الميدان»، لكنني شاهدت تحفة رائعة اسمها «موج» لمخرج شاب يحقق فيلماً سينمائياً للمرة الأولى، اسمه أحمد نور. أقول «تحفة» بمنتهى الثقة على رغم انها كلمة يُحاكم عليها اي ناقد. لا أريد ان أقول انه اول فيلم عن الثورة، لكنه بالتأكيد أعمق فيلم. ليس فقط لأنه جاء بعد 3 سنوات وفيه تأمل من بعيد، ولكن لأنه تجاوز موضوع الثورة الى معنى الثورة. هو فيلم لم يصوّر إلا نحو 3 دقائق فقط من التظاهرات، لكنه يطرح الأسئلة الشائكة حول معنى الثورة وكيف تغيّر في حياة الناس وليس فقط على صعيد الأحداث. الفيلم يتكلم على الإحباط ويتناول كل شيء من زاوية جديدة. وهو ذكّرني بعض الشيء بالمخرجة الايرانية مرجان ساترابي في اشتغالها على الكرتون، ويمكن اعتباره مزيجاً من غودار والكسندر كلوغ او حتى جان ماري ستروب، اذ يعتمد على نصوص متماهية مع بعضها بعضاً: بصرياً ونثراً وموسيقى. ثم ان اول جملة فيه هي «انا ولدت مع تولي حسني مبارك السلطة وقعدت 30 سنة من عمري أصنع هذا الفيلم». ولا شك في ان جيل احمد نور يعرف أكثر من أي جيل آخر معنى الثورة ضد حكم مبارك. جيلي مثلاً عاصر مبارك وهو بطل في حرب أكتوبر. وبالنسبة إلينا، سيظل بطلاً مدى الحياة لأنه ركب طيارة وحارب اسرائيل. ولا أخفي أنني خجلت من أن أنزل ميدان التحرير في ثورة يناير واكتفيت بالمشاركة من خلال مقالاتي. خجلت بكل معنى الكلمة لأن ثورتي كانت عام 1968. يومها نزلت الميدان وضُربت. هناك أجيال تخنق أنفاس اجيال أخرى، ولهذا من غير الممكن ان آتي في 2011 وأعتبر ان الثورة ثورتي أيضاً. وبالتالي هي ليست ثورتنا، بل ثورة جيل احمد نور، فهو الذي قام بها وهو الذي يعرف تماماً معنى فساد مبارك وعصره، ولا وجود في ذهنه لصورة البطل.