إذا أردت السيطرة على بلد ما عليك ضمان ولاء زعيمين: زعيم القبيلة وشيخ الدين. هذه حكمة الاستعمار البريطاني وخلاصة تجربته الطويلة خلال عمر الإمبراطورية التي لم تكن تغيب الشمس عنها. حكمة أدركها الاستعمار الفرنسي أيضاً. خلال غزوه مصر تقرب نابوليون بونابارت من الأزهر وزعماء محليين لتكريس الاحتلال. وسعى إلى استصدار فتوى، بعضهم يقول إنها صدرت وبعضهم ينفي، تعتبره مسلماً. خلال احتلاله العراق، لم يعبأ جورج بوش الابن بالنصيحة البريطانية كثيراً. استعدى الجميع. شيوخ العشائر ورجال الدين. العلمانيين والقوميين، معتمداً على معارضة الخارج التي كانت خليطاً من دعاة تسييس الدين والمذهب، بتأثير من التجربة الإيرانية والمنشقين عن حزب البعث والناقمين على النظام. أصطدم الاحتلال الأميركي بالجميع. حملت العشائر السلاح في مواجهته. أصدر رجال دين فتاوى تدعو إلى المقاومة. انتهى الأمر بالجيش الأميركي إلى العمل بالنصيحة البريطانية. شكل «الصحوات» من أبناء العشائر، بغطاء من بعض المشايخ. استطاعت «الصحوات» طرد تنظيم «القاعدة» من مناطقها في الأنبار. والتحقت بما يسمى العملية السياسية، مؤمنة للحكومة المركزية مظلة تحتمي بها من السياسيين الناقمين. مظلة تشبه المظلة التي أمنها الوقف السني، مخالفاً الكثير من «العلماء». وما زال العراق خاضعاً لهذه المعادلة، فحيناً تعود العشائر إلى «الثورة»، وحيناً تعلن الصلح مع الحكومة، وفق «الأعطيات» والهبات وتأمين مصالح زعمائها أو حجبها. والأمر ليس جديداً، حتى في ايام الحكم السابق كان صدام حسين يتبنى هذه السياسة. ومعروف أنه كلف العشائر حماية أنابيب النفط ومنشآته مقابل هبات يمنحها أو يحجبها حين يشاء. الوضع في بلاد الشام ليس مختلفاً كثيراً. حين لا يكون للعشائر دور تأخذ المذاهب مكانها. المذاهب خليط من الأيديولوجيا الدينية والسلوك العشائري. تسعى إلى تقاسم السلطة. وحين تشعر ب «الغبن» تخوض الحروب ضد الدولة وليس ضد النظام. وصولها إلى السلطة يؤمن لزعمائها نفوذاً يصرفونه مالياً في سوق الفساد والاستبداد، مفسحين المجال أمام التدخل الخارجي. حتى مثقفوهم ينشدون هذا التدخل، ولنا في زعماء المجلس الوطني السوري والائتلاف خير مثال. الهيئتان خليط من المذاهب والعشائر خاضعتان للسياسات الإقليمية والدولية. لا دور لهما سوى تأمين «الغطاء» لهذه السياسات. أما المتقاتلون على الأرض فقد دولوا قضيتهم بطريقة أخرى. استقدما إلى الصراع كل راغب وقادر على خوض الحرب على الدولة. لا يهمهم تدمير البنى التحتية ولا تفكيك المجتمع. يحولون الغيب إلى قوة مادية. يستخدمونها لعودة مستحيلة إلى الماضي. ماض لا يعرفون عنه شيئاً إلا ما قرأوه أو قرىء لهم وصور كأنه الجنة على الأرض. وأنه ليس من فعل البشر. هو مقدس زاد عبوديته عبودية. هذه أيديولوجيا «القاعدة» و»داعش» و»النصرة»، على رغم إصرار ميشال كيلو على التفريق بينها وانحيازه إلى «النصرة». نستطيع أن نعمم القاعدة على باقي العالم العربي. تكفي نظرة واحدة إلى السودان واليمن للتأكد من هذا الواقع. حتى مصر التي يفترض بها أن تكون أكثر تقدماً في بناء الدولة تسير في طريق الشرذمة لا يعرقل سرعة انحدارها إلى هذه الهاوية سوى تدخل العسكر وشيء من الحكمة القديمة. الحكمة البريطانية تبدو أبدية: إذا شئت أن تسود عليك ضمان ولاء زعيمين.