ألقى محمد نفسه من أعلى الطابق الثاني منهياً معاناته مع مرض الفصام الذي ألمّ به أثناء دراسته اختصاص هندسة الأدوات الطبية في ألمانيا، فقلب حياة أسرته المنكوبة بمرضه وفراقه رأساً على عقب، محيلاً أيامها بل ساعاتها إلى جحيم. لم يصب المرض النفسي الشاب الذكي والخلوق محمد (20 سنة)، كما يصفه أصدقاؤه، صدفة. فعدم درايته بالحياة والناس أوقعه في الغربة فريسة أصحاب مدمنين على المخدرات، جعلوه يرى من الحياة جانب المتعه الذي لم يكن يعتاده في سنواته الماضية التي قضاها في الدراسة، لا يفارق بيته خوفاً من أن يفوته وقت من الممكن أن يستغله في زيادة تحصيله العلمي. ليس سهلاً عليّ، يقول والد محمد، أن أرى إبني البكر الذي ربيته «كل شبر بنذر» جثة هامدة وملطّخة بالدماء على مدخل البيت، بعدما صعد في غفلة من أمه الدرج الذي كانت تحرص على أن يبقى بابه مغلقاً خوفاً من أن ينفّذ محمد تهديده الدائم بالانتحار. ويضيف أبو محمد أن أسرته المكونة من ثمانية أفراد كانوا على يقظة دائمة، بألا يتركوا سكيناً أو أي أداة حادة أو مادة تنظيف خطيرة في المتناول، بل في مكان مُحكم الإغلاق بمفتاح يملك الجميع نسخة عنه باستثناء محمد، الذي كان يمضي معظم وقته إما نائماً أو يصرخ لاعناً كل شيء يراه أمامه، ونادراً ما كان يعود إلى رشده ويتصرّف كإنسان طبيعي. وتذكر الأم المكلومة بولدها المدلل والعبرات تخنقها، أن محمد كان مثالاً للشاب الخلوق الهادئ المتزن قبل أن يذهب للدراسة في ألمانيا، «حيث تبدّلت حاله كلياً، واتصل زملاؤه بزوجي وأخبروه عن وضع محمد، وبضرورة أن يحضر لإنقاذه مما هو فيه». وتضيف أنها وزوجها لم يصدقا ما سمعاه، بيد أن الخوف من ان يكون ذلك حقيقة «دفع بأبي محمد للذهاب إلى ألمانيا للتأكد مما أخبرنا به»، مشيرة إلى أن المفاجأة كانت أقسى مما تصورا، بعدما شاهد فلذة كبده يتصرّف بجنون ورعونة وكأنه شخص آخر لا يعرفه. وتقول الوالدة إن زوجها عاد بمحمد إلى الأردن ليعالجه من الإدمان، لكنه وبعدما خرج من إحداها تحوّل إلى مريض نفسي، فصار كل ساعة بمزاج، «وكنا نقضي ليالي عدة من دون أن نذوق طعم النوم»، بسبب صراخ محمد وبكائه وعنفه، لا سيما مع والديه. وتؤكد انها وزوجها لم تطاوعهما نفسهما لإرساله إلى مستشفى للأمراض العقلية، بسبب ما يسمعانه عن سوء معاملة كوادرها وقساوتهم مع المرضى، لافتة إلى أنهما فضّلا رعايته بالمحافظة على مواعيد إعطائه الأدوية التي غالباً ما كانت ترمي به إلى السرير، وهي السويعات التي كانا يلتقطان فيها أنفاسهما. ويقول الخبير النفسي الدكتور محمد عرابي إن وجود مريض عقلي في الأسرة كان يعدّ وصمة عار لجميع أفرادها، ويتعامل الأصدقاء معه ومع أسرته بريبة وخوف. بل تحاول أسرته إخفاءه باعتباره مصدر إحراج لها، وكانت المستشفيات النفسية مؤسسات مغلقة لا يدري أحد ماذا يدور خلف جدرانها. كما أن الإعلام كان مقصّراً في القيام بدوره في مجال الصحة النفسية، وربما ساهم في ترسيخ المفاهيم الخاطئة السائدة عن مثل هذه الحالات. ولكن الوضع اختلف حالياً وفق عرابي، بسبب اتباع المستشفيات الأسلوب الطبي النفسي الاجتماعي في علاج المرضى واعتبار الأسرة أحد أعضاء الفريق العلاجي. وعن دور الأسرة تجاه المريض النفسي، يوضح عرابي: «المرض النفسي أنواع ودرجات، فقد يكون خفيفاً يتصف ببعض الغرابة على شخصية المريض وسلوكه، وقد يكون شديداً يدفع بالمريض إلى الانتحار. ويتوقف علاج المرض النفسي على نوعه ومداه وحدّته. فقد تُعالج حالات في العيادات الخارجية، بينما تحتاج أخرى إلى العلاج داخل المستشفى». ويعتبر عرابي التدخّل الأسري من أهم العوامل في العلاج وخفض نسبة الانتكاسات، مؤكداً أن على عائلة المريض أن تستوعب طبيعة مرضه وتتقبل بعض تصرفاته وتتحملها، وأن تتعرف إلى أسباب المرض واحتمالات الشفاء منه. كما عليها تجنّب النقد المستمر وإشعار المريض بنفسه وهويته ومساعدته على اكتساب المهارات الاجتماعية التي فقدها وتشجيعه على الاختلاط من دون تحدٍ لقدراته وإمكاناته، إضافة إلى تخفيف الضغوط البيئية لتدعيم توافقه اجتماعياً، وتشجيعه على العمل وانتزاعه من التمرّكز حول النفس، وتوجيه نشاطه الزائد إلى وجهات بنّاءة وعملية والإشراف على النواحي الاقتصادية لدى بعض المرضى. وأكد عرابي ضرورة الاهتمام والامتثال والانتظام في إعطاء المريض العلاج الدوائي والتأكد من أنه يتناوله وفق المطلوب والمحافظة على المواعيد الطبية، وعدم قطع الاتصال بالفريق الطبي العلاجي لمجرّد التماثل الى الشفاء. كما يجب ملاحظة التغيرات السلوكية على المريض ومعرفة بوادر الانتكاس واستشارة المعالج أو إحضاره المريض إلى المستشفى.