في مجتمعات الموتان الفرداني «المجتمعات التقليدية التناسخية»، كيف تعتمد الذات في إنتاج رؤيتها عن ذاتها عن محيطها عن الحياة والكون حولها؟ كيف تمتلك الذات إمكان الفرز ما بين الجمعي والفرداني؟ السؤال يحكي عن حالتين ثقافيتين، الأولى منها عن المجتمعات التي لا تزال على حالها البدائية التي لا يمتلك الفرد فيها تجاوز المعطيات الناجزة المحاكاتية، الحالة الثقافية الثانية هي التي تفوق الإنسان فيها على المثال الجماعي والامتثال الجمعي الاستبدادي، وترقى ناحية استقلال الذات عن عقيدة الكل إلى عقيدة الفرد... مجتمعات كمجتمعاتنا السلالية ثقافياً لا معنى للفرد من دون المجموعة، وما الفرد فيها إلا كمغنٍ في كورس جماعي لا يكتنه المفردات التي يستعيدها إلا لماماً، لأنه ملزم بالترديد من دون اكتناه. قالت العرب قديماً ولا تزال: «الكثرة تغلب الشجاعة». تكريساً لقيمة الأعداد والمجموعة على حساب قيمة العقل والوعي المتمثل بالشجاعة، التي بدورها تمثل الفردانية لشعور الوعي العربي، أن القيمة تكمن حيث المجموعة وأفكارها. تلك الحال الثقافية التي تنابذ الفردانية خلقت من مجتمعاتنا بيئات تؤثم الفردانية، ذلك أن الفردانية كإعلان عن الردة عن المشيمة الكبرى كما هي تمثل تحرراً لا يسمح به الضمير الجماعي الذي يأخذ الناس بكافة، حيث الرؤية الحتمية المتواضع عليها والتي افترضها ونابذ مخالفوها، تتكاثر في ثقافتنا العربية أن قديماً وإن راهنا المقولات التي تؤكد وتكرس قيمة المجموعة على حساب الفردانية... من مقولاتنا المحلية «حشر مع الناس عيد»، وغيرها كثير مما يدل على فحواها الجمعي التبخيسي للفردانية. هنا سأختصر وأختزل ما يعنيني قوله في قصة الفردانية حتى أكون أكثر مباشرة في الشأن الديني أو الشأن الذاتي أو الشأن الثقافي. عموماً، في مجتمعنا هل يمتلك الإنسان أن يحكي كل أو عامة ما يؤمن به ويراه، أم يظل يحتبس كل ذلك في لا وعيه العميق؟ الواقع أن ثقافة مجتمعنا تمعن في طمر الانطباعات والرؤى الذاتية وتؤثمها لتجعل الفرد حبيس أفكاره الذاتية محاصراً بالرقابة الاجتماعية التي لا تتسامح مع أي فرد في أن يقول أو يفعل ما يستبطنه، بل هي تدفعه ناحية التوشح بلغتين وذاتين متضادتين! ولست في معرض الحكي عن ازدواجية الشخصية والنفاق الاجتماعي، فذلك موضوع آخر وإن تقاطعت مخرجات الازدواجية والنفاق مع مخرجات اللافردانية. ولأن ثقافتنا تعتمد المحاكاتية التوارثية دينياً واجتماعياً فإن الفردانية منتبذة ولا حضور لها حتى عند مسيري الوعي الديني والاجتماعي، ذلك أنهم محكومون بالأقانيم الكلية الجماعية «نموذجاً» في الجانب الديني قلما تجد فرداً بمستوى عالم شريعة يجترئ اجتراح التابو المجمع عليه بوصفه مسلمات دينية، ليمارس الإضافة عليه أو التغيير بالتحريم أو الإباحة لمرحلة موت مفهوم الاجتهاد الديني وتقديس السائد، حتى وإن كان هذا السائد المتهافت قد بلي ضعفاً وظرفاً وزمكاناً، وذلك بسبب هيمنة الحس الجماعي أو العقل الجمعي المتحوصل على محددات تقليدية، هذا في الجانب الديني، في الجانب الدنيوي الاجتماعي والثقافي لا يزال مجتمعنا يمانع من استقلالية الفرد في إنتاج رؤيته عن ذاته وعن الأشياء حوله، لاعتباره أن الرشد والرشاد كينونة لا يشارفها الفرد استقلالاً من دون المجموعة ومن دون رخصة عبور من الوعي الجمعي المستبد على الفردانية، وكان نتيجة ذلك أن الفرد ظل عالقاً داخل المحضن الفكري الجماعي مفتقداً للشجاعة والرؤية التي تمكنه من الخروج برأي وانطباع ذاتي عما حوله وداخله من أفكار ورؤى، إمعاناً من الوعي والضمير العام في تبخيس وتهميش الفردانية، ليظل رأي الفرد بعض رأي المجموعة، والنتيجة موت الفردانية. مناخ الحرية هو ما يجعل للذات قيمتها واستقلالها، ومن دونه فلا يعدوا الفرد إلا أن يكون ذاتاً هامشية مكررة ،وذلك ما تسعى إليه الثقافات المستبدة التي تتخوف من يقضة العقل الفرداني الذي بدوره قد ينقلب على امتيازات المتنفذ والمستبد (السياسي/ الديني/ الاجتماعي)، الذي يرى أن ديمومة امتيازاته تكمن حيث موتان العقل الفرداني المتسائل بخلاف العقل الجماعي الامتثالي التسليمي. «الحصاد» في وعينا تتم تنشئة الفرد من بواكيره على مجموعة من القيم والمعارف التي توحي للإنسان بأن رأي وانطباع الآخرين أهم من رأيه وانطباعه عن ذاته وعن العالم حوله، يكرس في وعي الفرد وهو يترقى في مراحله العمرية أنه ملزم بمسايرة الفكرة السائدة وتقديسها كما يكرس لديه حتمية مراعاة استحسان ورضا المجتمع عنه وعن منهجه في عامة ممارساته، ليتحول الفرد في النهاية إلى صورة نمطية للمجتمع حوله بسبب طريقة التربية التي تهمش دور الفرد وانطباعاته ورؤيته الذاتية لمرحلة حصار رؤاه الفردانية وقمعها وتهديمها، أفراد المجتمع القمعي فكرياً وإن ترقوا معرفياً فإنهم يظلون أفراداً مرتبكين وحائرين لفقدانهم بوصلتهم العميقة بوصلة الفردانية التي اختطفها العقل الجماعي. * كاتب سعودي. [email protected] abdlahneghemshy@