توالت الدعوات وتصاعدت شآبيب التحشيد العاطفي لمقاطعة صحيفة سعودية نسجت «مانشيتاً» على إثر قضية أمنية، عده بعضهم مانشيتاً ماساً بمشاعر جهوية، ومتعدياً على اللحمة الوطنية وغيرها من تبريرات، أترك التعليق عليها لحال الاختصار... في الوقت ذاته الذي عادت فيه الدعوات القديمة الجديدة التي تتكرر كل عام بالتوازي ومعرض الكتاب في السعودية، طبعاً بالحيثيات ذاتها المستعادة كل عام... اختلاط النساء بالذكران من العالمين/ كتب مشتملة على أفكار هدامة من طروحات إلحادية ومذهبية بدعية وغيرها من حيثيات مستعادة... السؤال العالق ما قيمة ودافع المقاطعة، وما الذي أنتج تلك الذهنية المتجافية الإقصائية... برأيي أن ذهنية المقاطعة امتداد طبيعي لثقافة القطيعة الممانعة لأي منتج معرفي مختلف عن السائد السيكولاستيكي المدرسي (الوعي المدرسي حرفياً يعني الرأي المتعلم في المدرسة/ وبالمعنى الاصطلاحي الذهنية الدوغمائية المحاكاتية التكرارية المجترة لآراء القدماء)، كحال أي ثقافة مغلقة تستوحش الآخر المغاير وتجافيه. المشكل العميق في هذه الثقافة أنها لا تتماس إلا مع ذاتها، كما هي تتأبى الانخراط في الحال الثقافية العامة كي تمارس التلاقح والتكامل والإفادة من المغاير كما هي لا تجد السعة الفكرية التي تمنحها التعايش والحوار التلقائي الخلي من المسبقات الأيديولوجية، وذلك ما يدفعها لضيق العطن مع أي طرح ناشز (بحسبها) لتهرع للمقاطعة قبل المحاورة والمكاسفة... كالذي يعتمد الكي كأول دواء وخيار علاجي مع أنه آخر الدواء «بحسب المأثور النبوي الذي يقول آخر الدواء الكي»، في حال من اللاتساوق التراتبي المنطقي في التعاطي مع أي قضية «اجتماعية/ فكرية/ دينية»... يتمترس خلف هذه الذهنية «ذهنية القطيعة والمقاطعة» المكرسة للثقافة القطعية القطيعية بواعث عدة تآزرت في إنتاج مفهوم وعقيدة المقاطعة المعرفية: أولها: شعور فئة أنها تحمل مسؤولية حماية ثغور الأمة الفكرية والاجتماعية والدينية من الطارئ الثقافي المتربص بوعي المجتمع، وذلك ما يدعوها لممارسة سبيل الممانعة... وليس ذلك مستغرباً من فئة وضعت ذاتها الأعلم والأحكم بصالح العباد ديناً ودنيا، مفترضة أن المجتمع لم يبلغ مرحلة الرشد والاستقلال التي تجعله يفرق ما بين الرديء والجيد، وأنه لا يزال في طور الحضانة الروحية والفكرية. ثانياً: استبطان وتوزيع فئة من المجتمع الحس المكارثي «حس المؤامرة الذي يتشكل عبر افتراض متآمر/ الذي ينتج عنه التخويف من عدو ما»، الذي تحول الفارز اللاشعوري في علائقهم مع المختلف المفارق لهم ثقافياً لمرحلة أن أصبحت ذهنية المؤامرة هاجساً عميقاً يتعذر الفكاك منه أو رؤية الآخر من دون استدعائه وتمريره في امتحاناته المخبرية التيولوجية، ويتم توظيف المكارثية من فئة لأجل الهيمنة على الوعي الذي يتم تهليعة وتخويفه من الآخر الذي يجري تخوينه لإبعاده عن التأثير ومن ثم احتكار كامل التأثير والهيمنة على الوعي والرأي العام. ثالثاً: ضعف البطانة الحوارية البرهانية عند فئام صنعوا من أنفسهم ذوات خلاصية مفارقة مسؤولة عن الرأسمال الديني بسبب إيمانهم أنهم يتسيدون ويستلهمون حقول الحقيقة المطلقة المشتملة على امتلاك حقائق الحياتين، واعتبار ذواتهم قادرين على تنزيل واكتشاف واستكناه المعرفة وتوزيعها على الناس من دون الحاجة لمنتج الآخر الذي يكتنفه الشبهة والريبة، وذلك ما يدعوهم لمنابذة أي مخالف من دون أدنى استكشاف لمعطاه ورؤاه ونياته، باعتباره خارج أسوار الصدقية والحقيقة. رابعاً: الخوف من انفلات الوعي وانجفاله نحو الآخر (الافتراضي) يدفع نحو منازلته في أي مناسبة من خلال المبادأة بالمقاطعة التي تكون أحياناً تحت ذرائعية التخوين والتخويف، والتي تتجلى كثيراً بملاءة «التغريب المستهلكة»، التي لا تزال تمتلك القوة في لي العقل الجمعي وتظليله. خامساً: ممارسة المقاطعة بوصفها احتساباً صرفاً... وإن انتوى بعضهم ذلك عن إيمان مجرد إلا أن كثيراً تحركهم الضمنيات الأيديولوجية التي توظف الاحتساب لأجنداتها الحركية تقوياً على المختلف عنها استعداء وليس احتساباً مجرداً... إمعاناً في الإقصاء حتى وإن يكن عبر تديين الدنيوي، فالغاية تبرر الوسيلة لدى التيار المستبيح للميكافيلية. سادساً: التمويه بالتهميش من خلال تكريس دعوى تفتقر للصدقية... تقوم على دعوى «احتكار وهيمنة الوسط غير الديني على مفاصل الإعلام والتأثير» لتكون ذريعة مقنعة للرأي العام أنهم مهمشون على حساب فسح وإشراع التأثير للآخر «الليبرالي» لينفرد بزمام توجيه الوعي والنسيج الفكري لتتحول دعوى التهميش مبرراً لأي ممارسة ينتهجها دعاة الإقصاء والمقاطعة. عموماً الحكي في دوافع المقاطعة الثقافية لا يمكن استنفاده والإحاطة به لكن بحسبي محاولة استكشاف واستشراف شيء منه. «الحصاد»: من يتعاطون ويتعاقرون المقاطعة الثقافية الكلانية التي لا تفرز من خلال الحوار وإنما عبر القطيعة الشمولية الإقصائية، هم من يجتث الوعي ويغتال العقل على نطع الاحتساب ومقاصل المقدس، المشاركة الفاعلة في قنوات المعرفة (وسائل الإعلام/ معرض الكتاب/ الندوات الثقافية... وغيرها) أجدى من التحول نحو المقاطعة والمكارثة التي تجذذ الوعي وتدخله في رحلة استنزاف معرفي متطاول، ماذا لو تم تجذير روح الإصلاح والمناصحة وتقديمها على مفهوم المقاطعة الذي يخسرنا ويفقرنا ويزيدنا تيهاً فوق تيهنا العريض. * كاتب سعودي. [email protected] @ abdlahneghemshy