تشيد المجتمعات المتحوصلة على محيطها وبنيتها الثقافية (الاجتماعية/ الدينية) الممانعات والمصادّ كنوع من الشوفينية الوثوقية، كنوع من الميكانيزمات الدفاعية التي تعتمدها لحراسة مكونها الثقافي «الهوية» حراسته من اختراق خارجي عنها تحت ذريعة الاكتفاء والاستغناء الثقافي الذي هو في حقيقته «انكفاء ثقافي»، وليس ذلك واقعاً في المجتمعات الصغيرة كالقرية والقبيلة ونحوهما فذلك مفهوم ونسبياً مبرر ومعقول بحكم العزلة والتنائي الجغرافي والتاريخي. الإشكال الكبير الذي أنا بصدده إشكال عزلة المجتمعات الكبيرة التي تتمثل في العصر الحديث بكيان «الدولة»، إذ لم يعد من المقبول والمفهوم معنى الحساسية والتوجس الثقافي الذي يماهي في أغواره الذهنية الأبوية السلطوية المتسلطة، ولعل أكثر مظاهر الممانعة والأبوية الثقافية هي حال الحضانة الفكرية التي تعتمدها الثقافة الشمولية. ما أعنيه في الحضانة الفكرية هو ما يكرس في البطانة الشعورية للفرد أنه جزء من مشيمة فكرية وأنه محدود بجغرافيا معرفية لا يجوز له تخطيها من خلال تلقائيته الفردانية، وحتمية تمرير ومراجعة رؤاه ومنتجه الفكري الخاص على الآلة الثقافية الشمولية حتى يحتكم لرأيها ويأخذ منها رخصة العبور لأفكاره. تتجلى خطورة الحضانة الفكرية والإمبريالية الثقافية في ضعف وبؤس «ثقافة السؤال»، وليس السؤال في شكله الكلاسيكي المتماهي مع الثقافة التلقينية، أعني في ثقافة السؤال ابتداءً تجاوز قنطرة الإجابات المحاكاتية التكرارية السيالة التي تتآزر في الإنتاج القسري للأفكار من دون النظر في الفروق الفردانية ولا الفروق التاريخية، كما هي الحال في الثقافة العربية التي تعتمد الإجابات الوثوقية وتفرضها كما لو كانت إجابات متعالية مفارقة «قدسية». الجانب الآخر في قصة ثقافة السؤال هو ما معنى «السؤال»، في ثقافتنا التكرارية الامتثالية يتم تبخيس أبعاد وقيمة «السؤال» من خلال توجيه معنى وماهية السؤال من قيمة ذهنية إنسانية متعالية خلاقة تحترم وتعلي الفردانية والاختيار إلى معنى إقصائي هامشي، إذ يوجه معنى السؤال إلى تكريس المكرس، أو الاستفهام المدرسي التلقائي المستتبع للوعي والثقافة التلقينية، الاستفهام الذي يستعيد المعطى التكراري ولا يخرج عنه بسؤالات من خارج بنيته الفكرية، إذ البحث من خلال الاستفهام التقليدي عن تثبيت الثابت. ثقافة السؤال تعني وتحكي حال الحضور والوجود الذهني الإنساني الطبيعي، تعني أن الإنسان يتعاطى التفكير وإدارة العقل وتحسس الحقيقة من خلال الشك. ما يعني أن السؤال نتيجة لمقدمة كبرى «التفكير» وخلاف ذلك «موت السؤال» الذي يعني في تلافيفه اغتيال العقل، وكلتا النتيجتين طرديتين، فلا سؤال بلا تفكير ولا تفكير بلا سؤال. إذاً حضور السؤال يعني حضور التفكير وذلك ما تتأباه الثقافة الشمولية الأبوية التي تفترض أنها تفكر عن الجميع وتمدهم بالإجابات الناجزة التي تشتمل حاجات الدنيا والآخرة وما عداها من الإجابات مدان، كما أن التعدي عليها بالأسئلة تعدٍ وخروج عن الجماعة الفكرية/ ليس بالضرورة أن تكون ماهية السؤال على شكل سؤال تلقائي اللغة. السؤال عظمته تكمن حيث ديمومة التساؤل والشك حول كل معنى وقيمة لا تتسق ولا تتساوق مع وعي الإنسان، بخلاف الوعي التقليدي الذي يجرم التساؤل ويقسر على الامتثال والتسليم حتى مع وجود الشك وعدم الإيمان عميقاً. التساؤل يعني أنك حر، أنك تمتلك اختيارك في كل شأنك الديني والدنيوي، أنك تمارس ما تؤمن به ويتفق مع اختيارك الذهني والفكري. إشكال ثقافة الإجابات التي تعتمد الآلة غير العقلاني «اللفظية/ السماعية التلقينية» أنها تمارس القطع الوثوقي في أدبياتها على اعتبار أن المتلقي لا يمتلك غير الأخذ المعرفي السلبي الامتثالي، أخذ المعرفة الناجزة دونما مساءلتها واستعادتها أو مشاغبتها. «الحصاد»: ثقافة الإجابات كحال ثقافتنا تعتبر السؤالات تمرداً عليها أو تشكيكاً فيها، وتتكون تلك الرؤية بسبب الرسوخ القطعي في صوابية كل ما تطرحه تلك الثقافة الطاغية المتعالية «ثقافة الإجابة»، ولإيمانها أنها تمتلك الإجابات مطلقة الحقيقة والصوابية، وذلك ما جعل لغة الحوار ما بيننا رديئة لتجذر متلازمة الإجابات الشمولية في بطانتنا الشعورية، ولعجزنا عن التماهي في النسبية التي تنتجها ذهنية السؤال. ثقافة الإجابات الناجزة تستلزم في تلافيفها استسلام العقل للرمز الفكري/ السياسي/ الاجتماعي الديني، ما يعني أن الفرد المستسلم للإجابات شخصية مكررة ورقم غير مؤثر، ولا يمتلك استيعاب ما حوله من رؤى وأفكار إلا من خلال وسيط ما بينه وبين عقله، لتكون النتيجة أن الفرد جزء من سواد. ثقافة السؤال تحكي الوجود الكامل للذات البشرية وتملكها كامل خياراتها، أضف إلى أن الذات التي تنطلق في وعيها من ثقافة السؤال والشك تمتلك التراكم الفكري الذاتي الذي لا يمكن تهديمه لكونه بناءً حقيقياً ينطلق من أغوار وإيمانات الذات. * كاتب سعودي. [email protected] @abdlahneghemshy