ينتقل بهمة بين زبائن المقهى. يمسح المناضد بفوطته الصفراء، يحمل صواني الشاي والقهوة واليانسون، يزيد نار النراجيل، وحين يفرغ ينزوي جالساً القرفصاء على الأرض في أحد أركان المقهى منتظراً إشارة من أحد الزبائن أو من صاحب المقهى. قروش لا تكفي أود عائلته هي ما يعود بها لزوجته ولابنه الرضيع حيث يسكن إحدى الغرف فوق سطح أحد بيوت دار السلام. ترك ابنه محموماً. تعلّقت عيناه بشاشة التلفزيون. برنامج يحب متابعته يقدمه مذيع مشهور. لكنه هذه المرة يشاهده ذاهلاً كمن يرى شبحاً. المذيع ومعه «عم أمين» أحد الفلاحين يطرقان باباً خشبياً لأحد البيوت الطينية المعرشة بالسعف. يفتح لهما شيخ في جلباب رث، وذقن بيضاء، وشعر منكوش. يفاجأ الشيخ بأضواء الكاميرات أمامه، فيغمض عينيه بينما تجول الكاميرا في الغرفة الخالية سوى من إناء ماء فخاري في أحد الأركان، وحصيرة فوقها بطانية مهلهلة. ينظر الشيخ إلى عم أمين نظرة تساؤل ودهشة فيجيبه: «أنا كلمت البرنامج، وحكيت لهم مشكلتك وقلت إنك محتاج تلفزيون بدل اللي أحمد ابنك باعه. أهو حاجة كده تونسك وتعمل لك حس في وحدتك دي». يبكي الشيخ خليل تأثراً وهو يرى عمال البرنامج يحملون التلفزيون إلى داخل الدار ثم يقومون بتشغيله ويقول تأثراً: «ربنا يكرمكم ويبارك فيكم. أنا والله العظيم مش عاوز حاجة. أنا بس محتاج اللي يطل عليّ». يبدأ مذيع البرنامج حواره مع الشيخ خليل متسائلاً: - أولادك لا يزورونك يا شيخ خليل؟ - معنديش غير أحمد ابني وقاعد ف مصر وما بيجيش خالص يزورني. معذور أصل المعايش صعبة. - صعوبة الحياة لا تقطع صلة الدم يا شيخ خليل. يتدخل عم أمين قائلاً: «ابنه مبيعرفهوش غير لما يكون معذور في فلوس. ساعتها بس ييجي عشان يبيع حاجة يفك بيها زنقته. هو كان هنا من سنتين وخد التلفزيون منه وباعه. وقبلها بسنة باع التلاجة». يربت المذيع على كتف الشيخ خليل قائلاً: «لا تتردد في أنك تطلبنا إن احتجت شيئاً». يشكره الشيخ خليل ويدعو له بحرارة بينما يقبله هو فوق جبينه لتنتهي حلقة البرنامج على هذه اللقطة. يخرجه المعلم صاحب المقهى من ذهوله بتصفيقة من يده تنبهه لوجود زبائن جدد يحتاجون من يخدمهم، فيشب على قدميه لاهثاً ومستكملاً عمله بهمة ولكن بعقل منشغل. قبل أن تسمح حجب الليل لتباشير الفجر بهتك أستاره بنوره، تطأ قدمه رصيف المحطة مهرولاً خارج القطار. يتوقف أمام باب أحد البيوت الطينية المعرشة بالسعف. لا يطرق الباب بل يدفعه بيديه لينفتح، فيدخل مندفعاً ويفاجأ بالشيخ خليل أمامه. يبادره عم خليل فرحاً: - حمد الله على سلامتك يا أحمد يا ابني. أخيراً جيت تطل على أبوك المسكين. فيرد هو بينما يرفع جهاز التلفزيون فوق كتفه: - لا. جيت آخد التلفزيون أبيعه. الواد ابني عيان.