«صورتان في المخيلة. لدي شعور خفي بأن لهما علاقة بتجربتي، الأولى غلاف ديوان «صوت الجياع» لوالدي خليل زقطان، والثانية لوجوه أطفال يرفعون آنية طعام فارغة بصمت، وسأفهم في ما بعد أنهم صرخوا وأن الآنية مرتبطة بمطاعم وكالة غوث للاجئين الفلسطينيين» (أونروا)... هكذا، فتح العالم خياله أمام الفنانة والباحثة الفلسطينية زهيرة زقطان من فيافي اللجوء والتشرد بعد التهجير من مسقط الرأس قرية زكريا قرب الخليل والترحال من مخيم إلى آخر. تقول: «في العطلة الصيفية التي أمضيها عند جدتي عائشة في مخيم العروب، سأراهم ويتسع المشهد أكثر في حوش غرفتها عصراً باجتماع قريباتي وجارات جدتي حاملات الأقمشة والألوان التي تتحول بالإبرة إلى طيور وأزهار ونجوم، أراها أيضاً على قاماتهن المستقيمة تمثل عروق أثواب منطقة الخليل». من «حوش» الدار في بيت الجدة وصديقاتها وجاراتها، بدأت زهيرة حكايات لن تنساها، «حتى الآن النساء في مخيلتي طويلات وبقامات مستقيمة. ربما بدأت رحلتي منذ ذلك الوقت لأتعلق بالتاريخ وأبدأ البحث عن هويتي الأولى وأدخل جغرافيا المكتشفات الأثرية وألمس ذهب القدامى من زخارف ونصوص، وأدخل مرج الأرجوان للأسطورة الأولى لنا. فيشدني النص ويعيد إلي دهشة المخيم بالألوان في أصابع قريباتي». تتميز أعمال زهيرة زقطان، في لوحات الكانفا، الباحثة في التراث الشعبي الفلسطيني بطرح أفكار جديدة، منها انعكاس تجربة الشاعر الراحل محمود درويش في أعمالها. «النص الذي توأم الزخرفة والذي لم أخرج من دهشته حتى بعد أكثر من ثلاثين سنة لم أستفق منه، الفكرة التي أوجدت الزخرفة لتخدم حياة أمة ومجتمع وتعزز وجود معتقداته لينظم حياته ويمد شرائعه عبر هذه الرسوم التي رسمها الفتية ونفذتها النسّاجات الكنعانيات في المعابد بدايةً، ثم على الحجارة والخشب والطين المشوي بنصوص أدبية أخّاذة ارتبطت بهم كشعب». وتضيف: «هناك رأيت محمود درويش وقرأته على شاطئ المتوسط ورافقت كنعانياته إلى لوحتي... درويش كان الأقرب إلى تلك الجغرافيا، التجربة أعطتني امتلاء ورفدت الكثير مما عملت عليه، قصيدة محمود درويش تعيش فينا، قريبة من الناس، لذلك تقبلها المتلقي». خروجاً على المألوف في فن التطريز الشعبي وكيفية تقديمه بروح جديدة، تقول الباحثة والفنانة: «طريقة التطريز ترسخت كما هي الآن في الفترة البيزنطية. ويسجل لراهبات الأديرة في فلسطين وجبيل وصور تطويرها. قبل ذلك كانت تنفذ عبر الرسم والحفر على المسلات الحجرية ومد الخيوط على الملابس. هذا الفن كان قابلاً للتطوير وخدمة الهوية خارج إطار الثوب بما يحمله من مخزون ثقافي وفني وأدبي وتاريخي يمكن أن نراه على توابيت الكنعانيين في الخضيرة والعفولة وتل الدوير ولاكيش في فلسطين، لكنه منذ ستين عاماً أو أكثر بقي في قالب محدود بالزي وبعض الأدوات المنزلية. وحتى لا يزول هذا الفن يجب تطويره، خصوصاً أن آفاق الحداثة مفتوحة أمامه على اللوحة والمعمار والزي، مع تعزيز المعنى فيه إلى جانب الهوية». كان همّ زقطان إعادة تقديم الفن الكنعاني وتفاصيله التاريخية وعباراته ومدلولاته من خلال تقديم البعد التاريخي لهذا الفن في صور جديدة قد تستفز شيئاً في عين المتلقي. «بالطبع، هذا الفن ترك أثراً فيّ وفي المتلقي الذي شكل رافعة مهمة لي. الناس يحبون أن يعرفوا، خصوصاً عن أشياء موجودة لديهم في منازلهم. كتابي «ذاكرة حقل» المعتمد على مكتشفات أوغاريت روى حكاية وقدم معرفة جديدة. اصطدمت بصعوبات لأني كنت أبذل جهداً فردياً خارج المؤسسة، وأنا حرصت على ألا يتبع مؤسسة، لذلك ربما كان الانتشار أقل لكن الأثر أرضاني وساهم في استمراري». عبر مسيرتها الطويلة في العمل على تقديم فن التطريز الفلسطيني بصفته فناً تاريخياً مرتبطاً بالحضارة الكنعانية، ساهمت زقطان في معارض وأصدرت الكثير من الكتب والكثير من البحوث بهدف تقريب هذا الفن إلى الجمهور وإعطائه حقه كمنتج ثقافي. وتقول بهذا الخصوص: «فكرتي تعزيز المعرفة والمعنى حين أتقدم بلوحتي للناس، وهما عاملان موجودان في هذا الإرث يعززان قيمته التاريخية ويرسخان هوية شعب عمره ما يزيد على 6 الآف سنة».