ماذا عسانا أن نفعل، ونحن نعيش في القرن ال21 بعقلية وثقافة القرون الوسطى، العالم من حولنا أطّر لعقد اجتماعي ارتضاه المحكومون قبل الحكام، يصطفون في طوابير منتظمة يحملون أوراق التصويت، يُقرّرون بها مصائر الحكم والتشريعات والقوانين لإدارة شؤون حياتهم ومستقبلهم، من يبتغي الوصول إلى منصب المسؤولية عليه أن يكشف عن فكره وقدراته الإبداعية، وفق برنامج انتخابي طويل، يبدأ بالرؤية وينتهي بحلول والتزامات تُقنع الناخب بمن يرون أنه الأنسب لإدارة تلك المرحلة. المتنافسون على مسؤولية الحكم في بلاد العم سام «أميركا»، والبلاد الواسعة «أوروبا»، والدول الباسيفيكية في آسيا، ضجيجهم إلهام للتطوير، وقلق لتجاوز المواقف الصعبة على القدرة التنافسية واستثمار فرص بناء الإنسان فكراً وجسداً وتحرير المعنويات من براثن الإحباط. حوّلوا أوامر أساقفة وكهنة وشمامسة كهنوت الخرافات إلى أحصنة حرب لميدان معركة تنموية وخلق شبكات متكاملة تتبنى الأفكار الخلّاقة والبحوث والابتكار، وتحفيز الشعوب على الإثارة، لقهر التحديات واستثمار الفرص، من هنا كان للتفاؤل والاطمئنان جسر بين الحكام والمحكومين. نشهد بين الحين والآخر في دول المغلوب على أمرهم عبئاً ثقيلاً يجثمُ على الصدور، فمن مواقف عجرفة التفاخر بالأنساب والتنابذ بالألقاب إلى صكوك الغفران وإلى جلد الحقيقة، ثم كان لسفك الدماء والتعذيب ومدارس سجون الظلم، القول الفصل في احتلال أفكار الناس وتوجيه طاقاتهم وسجن آمالهم وسرقة أموالهم! أفرزت دول التخلف والكذب منتجاً طبيعياً في ثورات الربيع العربي المزعوم التي مزّقت ثياب الزيف البيضاء، عندما رأينا شبيحة القضاء وبلطجية العسكر ومرتزقة الإعلام وزعران السياسة تُبدّد آمال الربيع، وتُحوّله صيفاً ملتهباً بالدماء، وشتاء جَمّد حليب الأطفال في أثداء الأمهات! بعد نشوة الربيع المُبدّدة بفوضى دولة الفساد العميقة، كان لا بد لعودة رعب الخوف من النقيضين، إما الرضا بالأمر الواقع أو القبول بالمهالك، أمر لا مفر منه في مفترق القسوة والخطورة، وكان من الطبيعي انفجار التصفيق للقوة المطاطية واختفاء صوت الكرامة وأحلام المستقبل. عندما يولد حلم في بيئة طبيعية يَخضرُّ ويتنفس الإبداع، ويثور في دوائر الطموح المشروعة، لا مكان للون والجنس والعرق، ما تحمله من فكر وكفاءة وسيرة حسنة تدفعك إلى تحقيق أحلامك عبر مسارات واضحة المعالم، فلسفة حضارة بلاد العم سام حملت حسين أوباما والد رئيس الولاياتالمتحدة الأميركية باراك أوباما من محافظة نيانزا في كينيا إلى جامعة هارفرد، للحصول على شهادة الماجستير في الاقتصاد، قبل سفره لم يجمع زعماء قبيلة اللوو في مسقط رأسه محافظة نيانزا ليطلب منهم تفسير حلم رآه في المنام، وأنه سيتزوج سيدة أميركية بيضاء ستنجب له ولداً، رأى في الحلم أنه يعتمر قبعة الكاوبوي، وأمتطى حصاناً، وهو يحمل في يده علم أميركا! حمل أمتعته إلى الموطن الحقيقي لحكمةٍ ظَلّ يسمُعها في مراحل دراسته الأولى «من جد وجد ومن زرع حصد»، سمع بالعرب يُنشدونها ويتغنون بها، ولكنهم بمجرد انتهاء التصفيق يقذفونها من النافذة أو يتوسّدونها انتظاراً لزمن قد يدفعهم إجباراً إلى التغيير! عاد حسين أوباما الأب إلى كينيا تاركاً ابنه الصغير باراك مع أمه المُطّلقة، يكافح ويُنافح لأجل الحياة، ولكن الأب كان مطمئناً أن ابنه في أرض وبين شعب وفي كنف نظام يحفظ له آدميته ومكانته، وسيُقدّر إمكاناته وقدراته عند بلوغه المجد، حتى لو وصل إلى مكانة لاعب كرة سلة مشهور، سيكون أفضل حالاً من رئيس دولة أفريقية أو عربية، بالتأكيد لن يكون قاتلاً ولا ظالماً، ولن تناله أيادي انتقام وغدر. في بلاد العم سام والبلاد الواسعة هكذا الناس يحلمون، مشقة الوصول إلى الإبداع تنتظرهم، أما في بلادنا العربية المقهورة بالدّجل السياسي، فآخر تقليعات عسكري طامح جامح للسلطة، أصابته مآدب الزّفة لحكم منتظر بتخمة أضغاث الأحلام، فأخذ يُمهّد لعودة «توابيت الانتخابات» بهرطقات ساعة وحديث مع رئيس سابق، وحلم رأى نفسه، وهو يحملُ سيفاً رفعه عالياً، مكتوب عليه لا إله إلا الله باللون الأحمر، وربما هذه الفقرة تأطير من شيخ أزهري عاونه على إخراجها، لأن الأمة المصرية أصبح مصيرُها بين إخوانٍ أو عسكر؟ أيها السيدات والسادة في الوطن العربي الكبير، هذه هي النقلة العُظمى والقفزة النوعية التي انتظرناها للخلاص من غياهب وظلمات الانقلابات العسكرية الدموية في القرنين 19 و20، أحرقت آمالنا بعودة إلى ثقافة قرمطية ترفع سيف الحلم المسلول في القرن ال21، ويبدو أننا ما زلنا نعيش مقولة ردّدَها ممثل مصري لعب دور «حنكشة» في مسلسل قديم، «الليل طويل ما لوش آخر»، نسأل الله أن يُلهمنا وجيل هذا القرن الصبر والمثوبة، لأن الديموقراطية ماتت على فرش أحلام العسكر! وإلى لقاء مع حلم فاسد آخر! * كاتب سعودي. [email protected] alyemnia@