كنت أجلس إلى جانبها في الطائرة، بين يديها «آيباد» تقرأ على شاشته كتاباً بالإنكليزية، وبين يديّ كتاب من ورق بالعربية. كانت تقلّب الصفحات الناصعة بطرف إصبعها فتذعن لها بسرعة، وكنت أنا أزيّح بقلم رصاص تحت الأسطر التي تلفتني، بغية العودة إليها لاحقا، تاركاً أثراً يدل على أنني قرأت هذا الكتاب بمثل هذا الانطباع الذي تشي به الأزياح تحت السطور. وشخصياً لا يمكنني قراءة كتاب من دون قلم أزيّح به تحت السطور وأكتب به ملاحظات صغيرة على هامش الصفحة، حتى إذا عاودت قراءة الكتاب نفسه اكتشفت أنّ ذائقتي اختلفت، فأزيّح على سطور أخرى لم أُولها في السابق انتباهاً. وكان هذا دليلاً على أنني أتقدم في فعل القراءة أو ربما أتراجع. ولعله أيضاً دليل على أن القراءة والكتاب يشبهان الحياة في حركتها الدائمة. لم تكن السيدة التي إلى جانبي تحمل قلماً، كانت تقرأ فقط. بدا القلم الحاضر بين يديّ حضور الكتاب نفسه، أشبه بالعلامة التي تميز بين هذين النوعين من القراءة، بين الكتاب الإلكتروني أو «إي بوك» كما يُسمّى عالمياً والكتاب الورقي أو «التقليدي». هنا أشمّ رائحة الورق التي طالما أحببتها وحفظت من خلالها ذكرى كتب، وهناك تنظر السيدة إلى شاشة لا طعم لها ولا رائحة، لكنّ لها لونها الفضي الذي يشبه لون شاشة الكومبيوتر الذي بات يرافقنا في الكتابة. كنت أحمل كتاباً واحداً وكانت هي تحمل حتماً كتباً غير قليلة وربما مكتبة، وراء هذه الشاشة الصغيرة. ولاحظت أنها كانت «تتنزه» بين كتب عدة كما في حديقة، تفتح كتاباً ثم تغلقه منتقلة إلى غيره، بخفة تامة، ومن دون حاجة إلى البحث المضني أحياناً الذي يعرفه هواة القراءة الورقية عندما يقفون أمام مكتباتهم. كثيراً ما قرأت عن الكتاب الإلكتروني والمكتبة الافتراضية التي يمكنها أن تضم مئات الكتب في لوحة إلكترونية صغيرة تسمى أيضاً في المعجم الإلكتروني «قارئاً»، وكان يتملكني الفضول في متابعة «أخبار» هذا الكتاب وأصدائه والأثر الذي بدأ يتركه على القراء وعلى الكتب الورقية... وأذكر أنني قرأت مرة مقالاً عن كتاب بالإنكليزية أخافني عنوانه وهو «إحراق الصفحة» وفيه يتوقع صاحبه المتحمس للكتاب الإلكتروني، أنّ كلمة «إي بوك» ستروج وتصبح «بوك» أي «كتاب». والقصد أن كلمة «كتاب» ستعني مباشرة «الكتاب الإلكتروني» لا الورقي الذي سيغيب كلياً بحسب هذا الكاتب. هذا تحريف خطر في معنى الكتاب وأبعاده وفي معنى القارئ والقراءة التي عاود الكتاب الإلكتروني «اختراعها» مجرّداً إياها من عادات القراءة الأصيلة وجمالياتها. وكانت أصلاً مجلة «بيزنيس ويك» الأميركية حملت مرة على غلافها الأول صورة كتاب ورقي يحترق وفي الداخل ملف عن هذه القضية الشائكة التي أدت إلى إغلاق مكتبات ورقية عدة، لا سيما في الولاياتالمتحدة. ولعل اللافت في هذا القبيل هو السجال المفتوح دوماً حول قضية الكتاب الإلكتروني، ليس فقط بين المتحمسين لل «إي بوك» والآخرين المتمسكين بالكتاب الورقي، وإنما أيضاً بين الناشرين والشركات الإلكترونية والمكتبيين وعلماء الاجتماع والاقتصاد والمفكرين... هذا سجال ثقافي قبل أن يكون ذا خلفية تجارية واستهلاكية. سجال لا نهاية له، ما دام الكتاب الإلكتروني، على رغم حملات ترويجه، عاجزاً عن إلغاء الكتاب الورقي والحلول محله. وأفادت أخيراً الباحثة الأميركية أليس لا بلانت في بحث ترجم إلى الفرنسية، بأنّ نشر الكتب الإلكترونية الذي كان بلغ نسبة مئة في المئة تراجع في الأونة الأخيرة إلى نسبة خمسين في المئة. وفي رأيها أنّ القضية ليست في تراجع - أو تقدم - كتاب على حساب كتاب، فما من كتاب سينتصر، والحل يكمن في إيجاد حال من التوازن بين النوعين، فلا يُروّج كتاب دون آخر ولا يمضي الناشرون الإلكترونيون في محاربة الناشرين الورقيين. يجب على الواحد أن يكمل الآخر بلا طمع في الربح والهيمنة والاحتكار. ولعل المثل الذي يمكن الوقوف عنده هنا أن شركة «أمازون» العملاقة في النشر الإلكتروني لم تستطع أن تتخلى البتة عن النشر الورقي، كما أفاد الكاتب الفرنسي أوليفييه بوستال فيناي، رئيس تحرير مجلة «بوك». وفي المقال نفسه يطرح سؤالاً هو عبارة عن خلاصة تأمل: هل يكون مصير الكتاب الورقي مماثلاً لمصير «الراديو» الذي استطاع أن يصمد حيال صعود موجة الإنترنت والمرئي المسموع؟ كانت السيدة الجالسة إلى جانبي تقرأ على شاشة «الآيباد» وكنت أفكر بمكتبتي التي جمعت كتبها كتاباً كتاباً منذ المراهقة. هذه المكتبة لن تحل محلها الآلات الإلكترونية، والكتاب الذي بين يديّ لن يكون له رديف، بارد، لا طعم له ولا رائحة.