«بارنز أند نوبل»، أكبر سلسلة مكتبات في الولاياتالمتحدة، أقفلت مكتبتها في منطقة جورجتاون في واشنطن وهي مكتبة تقع على بعد أميال قليلة من أشهر بيت في أميركا: البيت الأبيض. «واشنطن بوست» أخبرتنا، نحن من صُعق للخبر ان «بارنز أند نوبل» خسرت معركة الاحتفاظ بالمبنى الذي تستأجره لمحلات «نايكي» للأحذية الرياضية. فبعد اليوم، عوضاً عن أن تسير في شارع «أم» الرئيس في جورجتاون ونقرأ عناوين آخر الكتب على واجهة المكتبة الزجاجية ستتصفح آخر حذاء «نايكي» وصل الى السوق وتقارن ألوان الأحذية الجديدة المحظوظة باحتلال موقع كهذا في قلب العاصمة الأميركية. إن الأمر غير مطمئن بل محزن عندما تستبدل عاصمة القوة العظمى الوحيدة في العالم مكتبة بمتجر أحذية حتى ولو كان هذا الحذاء هو «نايكي» الذي يفوق سعر أرخص أحذيته سعر معظم الكتب في «بارنز أند نوبل». إقفال هذه المكتبة له أثر ثقافي ونفسي على المدينة التي تفاخر بالثقافة السياسية لأهلها وتفوقهم بها على أهالي البلد الآخرين. كانت هذه المكتبة مكاناً ليس لشراء الكتب فقط، بل للقاء ولشرب القهوة في مقهاها والاطلاع على آخر العناوين المنشورة وللقاء أهم الشخصيات العالمية التي تزور واشنطن. فالمكتبة تقع على بعد أمتار من فندق «فور سيزنز»، المكان المفضل لقادة العالم الذين يزورون العاصمة الأميركية وكثيراً ما تلتقي كبار مسؤوليهم بعد انتهاء عملهم الرسمي يتصفحون عناوين الكتب على طاولة «بارنز أند نوبل» وهذا كان الحال مع المكتبة الأخرى التي أعلنت إفلاسها وهي «بوردز» التي أقفلت العام الماضي. وكانت أيضاً مكاناً للقاءات الصدفة مع كبار الشخصيات. هناك التقيت مرة وزير خارجية تركيا الحالي أحمد داود أوغلو عندما كان لا يزال مستشاراً لرئيس الحكومة وكنت أعرفه من خلال زيارات الرئيس رفيق الحريري الى تركيا واجتماعه به. والواقع انه كان لهذه المكتبات كمكان للقاء دورها أيضاً في تثبيت صورة الديموقراطية الأميركية على الأقل في مجال قراءة الكتب. ففي مكتبة «بارنز أند نوبل» في جورجتاون كنت تلتقي كبار الشخصيات وكنت ترى المشردين يجلسون على كرسي يتصفحون كتاباً أو يسيرون ويتصفحون الكتب مثل باقي الناس وهذه المساواة هي ما سنفتقد، في جورجتاون، المنطقة الأكثر غلاءً وحصرية في واشنطن. لكن المسألة ليست بهذه البساطة. فإقفال فرع «بانز أند نوبل» لأن المكتبة لم تستطع ان تستمر في دفع إيجار البناء بعدما رفع صاحبه إيجاره مؤشر على شيء كبير يحدث في عالم المكتبات والكتب بل في عالمنا نحن جميعاً. ان «بارنز أند نوبل» تمثل لي التغيير الكبير الذي يطرأ على العالم. عالمنا كما نعرفه وتربيّنا عليه. والكتاب هو أحد أمثلة هذا التغيير والتحوّل. وليس من المبالغة القول إننا نعيش تحولاً تاريخياً وتكنولوجياً هائلاً يشبهه بعضهم في مجال الكتاب باختراع غوتنبرغ للطباعة. ان عالم الكتاب لن يعود أبداً كما كان قبل عام 2007 عندما دخلت أول لوحة إلكترونية السوق. فاللوحات الالكترونية من «كيندل» الى «نووك» الى «آي باد» ستغير حياتنا الى الأبد كما غيرت مستقبل الكتاب والمكتبات ودور النشر ووضعتها على مفترق طرق، فإما أن تتأقلم مع العالم الجديد أو تنقرض. ان الانتقال من الكتاب المطبوع الى الكتاب الالكتروني هو وفق قول أحد الخبراء في عالم النشر شبيه بالانتقال من الحصان الى العربة الى السيارة. هذا الانتقال حتمي وسيتم تدريجاً على رغم المعارضة التي يواجهها مثل أي جديد. فعندما بدأت بالقراءة على «آي باد» وجدت قراءة الصحف طبيعية ولكنني وجدت صعوبة بداية في قراءة الكتب. وكنت أشتري الكتاب إلكترونياً ولكنني بعد قراءة صفحات أذهب الى المكتبة وأشتريه مطبوعاً. لكن هذا تغيّر منذ شهرين عندما قرأت كتاب ستيف جوبز على «آي باد». وعلى رغم انه يقع في 700 صفحة استمتعت بقراءته ومنذ ذلك الحين أفضل القراءة على «آي باد». وأعلم ان قراري سيساهم يوماً ما في اندثار الكتاب المطبوع ويساهم في هذه الأزمة التي يواجهها الكتاب والمكتبة على حد سواء. هناك عاملان أديا الى نشوب هذه الأزمة. الأول الأزمة المالية العالمية التي حلّت بالولاياتالمتحدة وأدت الى خفض الصرف على شراء الكتب من جانب المواطن الأميركي. والثاني بالطبع والأهم، دخول اللوائح الالكترونية سوق الكتب والثورة الحالية في عالم الانترنت. فماذا سيحلّ بالكتاب، الجليس الأنيس، كما يسمى في ثقافتنا العربية الكلاسيكية؟ لن ينقرض ولكنه سيتغير كما ستتغيّر علاقتنا به. لن تعود هناك تلميذة تقطف الياسمين وتخبئه بين طيات كتابها كما كنا نفعل. ولن يستطيع القارئ الالكتروني ان يكتب ملاحظاته بالقلم الرصاص على هامش صفحة كتابه. ولن تستعير كتاباً من صديق، ولن تستطيع تصوير صفحات كتاب في مكتبة، ولن تستطيع أن تتمشى في المستقبل القريب الى أقرب مكتبة وتتصفح عناوين الكتب الجديدة. وأهم شيء هو أنك لن تكتشف كتاباً بالصدفة على طاولة المكتبة وتفاجأ بروعة هذا الاكتشاف. فالأحرف ستكون مغطاة بلوح زجاجي لا يمكنك لمسه، سيبقى هذا الحاجز الزجاجي بينك وبين الكلمات، فلن تتمكن من لمس حرارتها بل ستتعايش مع برودتها وتتذكّر أياماً جميلة كنت أنت والكتاب أصدقاء وسُمراء. ولكن لهذا الكتاب الالكتروني فوائد. أولاً انه المستقبل و «الذي يحاول إيقاف دولاب المستقبل بيده يقطع أصابعه»، كما يقول ليش فاليسا، زعيم حركة «التضامن» البولندية. والكتاب الالكتروني أرخص، فبينما يبلغ معدل سعر الكتاب المطبوع في الولاياتالمتحدة 15 دولاراً يبلغ معدل سعر الكتاب الالكتروني 8 دولارات، أي النصف تقريباً. كما ان حمل الكتاب الالكتروني ونقله أخف وأسهل وعمليّ أكثر. ففي رحلة الى الشرق الأوسط أخيراً حملت ال «آي باد» عشرة كتب كنت أقرأ بعضها وأنوي قراءة بعض آخر. فحمل عشرة كتب حول العالم ليس بالأمر السهل إذا كانت مطبوعة، أما اذا كانت بحجم لوحة صغيرة في كف يدي فهذا أمر رائع. يتسع «كيندل» مثلاً لتحميل ثلاثة آلاف كتاب. هذه معجزة لمن يحب الكتب. الفائدة الأخرى للكتب الالكترونية تأثيرها الإيجابي في البيئة. فما علينا سوى التأمل في عدد الأشجار التي سيجرى إنقاذها عبر اختيار الكتاب الالكتروني على الكتاب المطبوع الذي يحتاج الى أطنان من الورق والشجر لنشره. وأهم فائدة للكتاب لدى صديقتي ندى هو انها تضغط زراً هنا في واشنطن فيجرى تحميل الكتاب خلال ثوان لدى أمها في بيروت التي تقرأ على «كيندل». ويتوقع بعض، وهذا أمر مبالغ فيه الآن، ان يصبح الكتاب المطبوع نادراً. والمكتبة لن تعود بحاجة الى رفوف لوضع الكتب، وهذا صحيح، ودور النشر ستحاول إعادة تشكيل دورها لكي تتمكن من البقاء. ولكن أحد أهم الأسباب التي يمكن ان تجعل الكتاب نادراً انخفاض عدد القراء. فمخترع «آي باد» ستيف جوبز قال يوم إعلانه عنه: «لا يهم إذا كانت السلعة جيدة أم سيئة. الواقع ان الناس لم تعد تقرأ. و40 في المئة من الأميركيين يقرأون كتاباً أو أقل في السنة». ما يفسِّر أيضاً كيف ان «بارنز أن نوبل» تضطر لإقفال فرعها في جورجتاون لأسباب مالية بينما تستطيع شركة «نايكي» ان تتحمّل هذه الكلفة. فمن المؤكد ان الذين يشترون حذاء «نايكي» في العالم أكثر بكثير من الذين يقرأون. تقول أسبوعية الناشرين ان مبيعات الكتب الالكترونية ارتفعت بنسبة 159.8 في المئة في الربع الأول من عام 2011، بينما انخفضت مبيعات الكتب المطبوعة بنسبة 34 في المئة في الفترة نفسها... كما تشير إحصاءات أخرى الى أن مبيعات الكتب المطبوعة نمت فقط 1.6 في المئة بين 2002 و2008 وتقلص هامش الربح بينما ازدادت مبيعات الكتب الالكترونية 177 في المئة عام 2009 وحده. ومن المتوقع ان تزداد هذه الأرقام وتتسع الهوة بين مبيعات الكتب المطبوعة والالكترونية أكثر. ففي عيد الميلاد المنصرم تلقى ملايين الأشخاص حول العالم هدية جديدة هي اللائحة الالكترونية للقراءة، ما يعني ان ملايين جديدة من الكتب سيتم تحميلها على اللوائح الالكترونية على حساب الكتاب المطبوع لكي تتماشى مع هذا الاتجاه التصاعدي للكتاب الالكتروني. طاول تأثير الكتب الالكترونية ليس المكتبات التجارية فقط وإنما المكتبات العامة ايضاً على رغم ان الكثير منها بدأ منذ فترة بالاستحواذ على الكتب الالكترونية وإعارتها لمشتركي المكتبة. وهذا الأمر سيغير مفهوم المكتبة كمكان نقصده لاستعارة كتاب وللقراءة ولرؤية أهالي الحيّ، بل انه سيغير شكل المكتبة وداخلها. فرفوف الكتب لن تعود موجودة في المستقبل القريب، واليوم عوضاً عن أن يتوجه الفرد الى المكتبة لاستعارة الكتاب كل ما هو عليه هو ان يزور موقعها الالكتروني ويقوم بتحميل الكتاب الذي يريد وإخراجه من المكتبة الافتراضية الى لوحته الالكترونية خلال لحظات. ماذا يعني كل هذا لنا نحن من تربى على تلمسِّ كتاب بيديه وشراء علامة كتاب مميزة يضعها لتحديد نقطة وصوله في قراءة الكتاب عوضاً عن لمس شاشة التابليت فيضع علامة حمراء تدلّه على الصفحة التي وصل اليها؟ هذا يعني اننا جيل محظوظ، نعيش لحظة تاريخية مفصلية في تطور مجتمعاتنا تكنولوجياً وثقافياً. صحيح انك تحس أحياناً انك تعيش في بلد غريب هو المستقبل، لكن هذا الوقت هو من أكثر الأوقات إثارة: أن يكون الإنسان حياً ويعيش ثورة كهذه. هوة بين عالمين القراءة الالكترونية كمصير الكتاب المطبوع تضيء على مسألة اتساع الهوة بين العالم المتقدم والغني (إذا كنا لا نزال نقبل بالتصنيف السابق للدول الغنية والفقيرة بعد الأزمة المالية العالمية)، والعالم الفقير. فبينما ينتقل الأميركي من الكتاب المطبوع الى الكتاب الالكتروني لا يزال كثر حول العالم يصارعون للحصول على كتاب، أي كتاب. ان هذه الفجوة الثقافية ستوسع من حجم الفجوة الاقتصادية والعلمية بين هذين العالمين اللذين يسيران في خطين متوازيين تزداد المسافة بينهما اتساعاً شاسعاً مع كل يوم جديد، واختراع جديد. وحتى داخل البلد الواحد ستصبح الفجوة كبيرة بين الفقراء الذين لا يستطيعون شراء اللوحات الالكترونية للقراءة وباقي الناس الذين أصبحوا قراء الكترونيين. فوفق إحصاء قرأته هناك طفل أميركي اليوم من أصل كل خمسة أطفال تحت خط الفقر. في السابق كان باستطاعة الأطفال الفقراء الحصول على كتاب مهما كانت درجة فقرهم. الآن هذا الطفل الأميركي بحاجة الى لوحة الكترونية للقراءة فكيف يستطيع من هو تحت خط الفقر تحمّل كلفة لوحة الكترونية وهو لا يستطيع الحصول على قوته اليومي؟ التعليم والقراءة كانا دائماً يعتبران حقاً عاماً في الولاياتالمتحدة وكان توفير الكتاب واجباً للجميع. وعندما كانت الحكومة المركزية تتأخر في المبادرة وتوفير الكتاب كانت هيئات وشخصيات تتبرع بها. وأهم هذه الشخصيات كان أندرو كارنغي، الصناعي الكبير، الذي تحوّل رجل خير وقام بمبادرة لا مثيل لها في التاريخ الحديث عندما تبرع ببناء وتمويل 3000 مكتبة عامة في الولاياتالمتحدة وبريطانيا وكندا لكي يوفّر القراءة للجميع ويصبح العمل بمتناول الجميع. وهذا جزء من ديموقراطية المعرفة في أميركا. وقرأت لأحد منتقدي الكتاب الالكتروني وتأثيره في ديموقراطية المعرفة والعلم في أميركا قوله: «تخيلوا ابراهام لينكولن الفقير الذي علّم نفسه بنفسه عبر قراءة الكتب، ماذا كان سيفعل اليوم؟ لن يكون هناك ابراهام لينكلون اليوم لأنه سيحتاج الى لائحة الكترونية للقراءة ولن يتمكن من شرائها». ولكن سعر اللوائح الالكترونية بدأ بالانخفاض وهذا ربما يبدّد بعض هذه المخاوف. ومع ذلك يعتبر البعض الاتجاه الحالي في ثورة التكنولوجيا مؤذياً للديموقراطية لأن للكتاب تأثيراً ديموقراطياً في العلم. فالتكنولوجيا في رأي هؤلاء تجعل الكتاب والمعرفة حكراً على من يستطيع شراءها. ان هذا الرأي يتجاهل التأثير الايجابي للانترنت والتكنولوجيا في ديموقراطية المعرفة. فإحدى أهم ميزات التكنولوجيا الحديثة والانترنت هي جعلها العلم متاحاً للجميع شريطة الحصول على التكنولوجيا أولاً. فالمعلومات لم تعد حكراً على نخبة. فكل من يستطيع الوصول الى كومبيوتر يستطيع الحصول على المعرفة التي يريد وهي متوافرة للغني والفقير على حد سواء. وفي الولاياتالمتحدة الكومبيوتر متوافر لجميع الطبقات خصوصاً في المدارس العامة وهذا لا ينطبق على باقي دول العالم حيث لا يزال الكومبيوتر سلعة يحتكرها الذين يملكون المال فيملكون المعرفة أيضاً. هل كل هذا يعني ان الكتاب سيختفي غداً وتتبخّر أوراقه؟ بالطبع لا لكنه لن يبقى كما نعرفه أبداً. حتى الكتب المقدسة أصبحت اليوم تسكن اللوائح الالكترونية. وكانت رؤية بعض ركاب طائرة «ميدل إيست» الآتين من جدة في المملكة العربية السعودية وهم يقرأون القرآن على «آي باد» لافتة لي عند زيارتي الأخيرة. اليوم ما زلت أقبِّل كتاب القرآن الصغير الذي أحمله كلما فتحته لقراءة سورة فيه. ماذا سيقول عني ركاب الطائرة لو قبّلت «آي باد» كلما فتحته لقراءة آية من القرآن؟ خوف من القرصنة دور النشر قلقة من فرض اللوائح الرقمية والالكترونية أسعاراً متدنية للكتب كما ان خوفها الأكبر هو من القرصنة. ولذلك ترى اليوم دور نشر تفرض على المكتبات العامة في الولاياتالمتحدة أن تقوم بإعارة الكتاب الالكتروني 26 مرة فقط وبعد ذلك على المكتبة تجديد الرخصة مع دار النشر من جديد ودفع مبلغ جديد. كما ان أمازون بدأت بالدخول في نطاق النشر عبر علاقة مباشرة مع الكتّاب من دون المرور بدار النشر وهذا لن يضع دور النشر على مفترق طرق عليهم الاختيار بين تغيير أسلوب عملهم أو الانقراض فقط، وإنما للكثير منهم ربما تكون هذه نهاية الطريق. ان هذا التطور في النشر يمكن أن يجعل عملية النشر أكثر ديموقراطية ولا يبقى نشر الكتب حكراً على حفنة من الكتاب الذين يستطيعون الحصول على عميل جيد يعرف تسويق فكرتهم والحصول على عقد للكتاب بصرف النظر عن مدى جودته. وأثّر الكتاب الالكتروني أيضاً في دور النشر الجامعية، فجامعة كورنيل المعروفة شهدت انخفاضاً في مبيعات الكتب المطبوعة وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، ما أدى الى طباعتها عدداً أقل من الكتب. ورد مدير دار نشر الجامعة هذا الانخفاض الى «وضع الاقتصاد، والخفض في موازنات المكتبات، وتردد الناس في صرف الأموال على شراء الكتب». ولوحظ أن الكتب المتخصصة في الانسانيات هي الأكثر تأثراً إذ انخفضت 15-20 في المئة.