تكثر الايحاءات الجنسية في أيامنا. وتحفل مشاهداتنا اليومية بشتى أنواع المغريات. ولا تزال حقيقة الجنس من «الاسرار» الابدية. ويفتقر الجنس وأخلاقياته في المناوشات السياسية والدينية إلى المقاربات النقدية التي من شأنها ان تحسّن صحتنا الجنسية والإنجابية، من خلال نهج واقعي. وتفيد أرقام لاختصاصيين في الصحة الإنجابية، بأن الفعل الجنسي يحدث 125 مليون مرة يومياً على مستوى العالم. واذا كان هذا هو المسبب الثمين لاستمرارية الوجود البشري، فكيف لا يزال التطرّق إليه من المحرمات في القرن الحادي والعشرين؟ تتجدّد هذه الأسئلة على الأجندة العالمية كل خمس سنوات او عشر. وتصفع أرقام الوفيات بين النساء اثناء الولادة او الإجهاض غير الآمن او عدد المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسبة المسبّب لمرض «الايدز» او المُعنّفات جنسياً، وجه العالم يومياً. ويستمر السؤال عن الاهداف التي رسمها «برنامج العمل» الذي انبثق من «المؤتمر الدولي للسكان والتنمية» (القاهرة - 1994) والذي وضع خريطة طريق للسنوات العشرين المقبلة. وبعد 15 سنة كان لا بد من السؤال: هل التزم العالم هذه الخريطة؟ ماذا فعلت الحكومات من أجل الوفاء بتعهدها الاستثمار في صحة المرأة ب21,7 بليون دولار سنوياً حتى العام 2015؟ قبل 15 سنة اتفق 11 الف مشارك من مناطق وثقافات مختلفة في أكبر تجمع حكومي دولي معني بالسكان والتنمية، على اعتبار الصحة الإنجابية من حقوق الانسان الاساسية. وحينها، توافق المجتمعون على ثلاثة اهداف: خفض معدل وفيات الرضع والاطفال والامهات، وتوفير سبل الحصول على التعليم للجميع ولا سيما الفتيات، وتزويد الجميع امكان الحصول على خدمات الصحة الإنجابية بكل انواعها بما في ذلك تنظيم الاسرة. 200 مليون امرأة من دون خدمات إنجابية في بداية الشهر الجاري استضافت برلين 400 ممثل لمنظمات غير حكومية ضمن «المنتدى العالمي للمنظمات الأهلية التي تعنى بالصحة الجنسية والإنجابية» بدعوة من الحكومة الالمانية وصندوق الأممالمتحدة للسكان هدفه توجيه دعوة واضحة لتفعيل «برنامج العمل» المنبثق من مؤتمر القاهرة ومراجعة الاخفاقات والنجاحات وكيفية الوصول إلى المواعيد المرسومة. ومن الحقائق التي أظهرتها مراجعة السنوات ال15 الماضية، ان اكثر من 200 مليون امرأة يفتقرن حالياً إلى خدمات الوسائل الحديثة لمنع الحمل، وهناك اكثر من بليون ونصف بليون شاب تتراوح اعمارهم بين 10 و24 عاماً وهو أكبر جيل شاب في التاريخ، وتعيش نسبة 70 في المئة منهم في الدول النامية، سيعبرون إلى سنوات الخصوبة وسيحتاجون إلى خدمات الصحة الإنجابية والجنسية. ويتعايش 33 مليون مصاب جديد مع فيروس الإيدز. وسُجّل مليونان و700 الف إصابة جديدة بالإيدز في 2007 وأكثرها نتيجة عدوى تنتقل بواسطة الجنس. ويتوفى سنوياً اكثر من نصف مليون امرأة نتيجة الحمل او خلال الإنجاب، بينهن 67 الف امرأة يمتن بإجهاض غير مأمون. وتعاني ملايين النساء من المرض والإصابات او العجز. لقد قدّم مؤتمر القاهرة «خطة مستقبلية»، لكن القيادة السياسية والالتزامات المالية تراجعت. وبين العامين 1994 و2008 انخفضت نسبة تمويل الصحة الإنجابية (بالنسبة الى الصحة عموماً) من 30 في المئة إلى 12 في المئة. وقاد التيار المحافظ في الولاياتالمتحدة (بقيادة الرئيس جورج بوش) والفاتيكان، حملة سياسية معارضة لمؤتمر القاهرة، بل هوجم برنامجه في شكل مستمر في الأممالمتحدة وحول العالم. ولم يجر تفهّم المجتمعات المنكوبة بوباء نقص المناعة المُكتسبة، بسبب النقص في حقوق الصحة الإنجابية والجنسية. ومما لا شك فيه ان التحديات اليوم أكبر مما كانته في العام 1994. فرضت تحديات كبرى نفسها مثل الأزمة المالية العالمية ونتائج التغير المناخي وازدياد التطرف الديني والنظم الصحية المجتزأة، بقوة على منتدى برلين. وتمحورت النقاشات على ضرورة حضّ الحكومات على الالتزام بوعودها، وتذكير المنظمات الأهلية بأن الصحة الإنجابية والجنسية استثمار طويل الامد تفوق أهميته الاستثمار في التسلّح. والحق أن ثلث الدول تنفق أكثر على العسكرة مما تنفقه على الصحة. في افتتاح هذا المنتدى، أطلقت وزيرة التعاون الاقتصادي والتنمية في ألمانيا الاتحادية هايديماري فيتشوريك تسويل نداء «من أجل حماية خاصة للفقراء والاضعف في هذا العالم خصوصاً الذين يواجهون في هذه الايام الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية». وشددت على «أن برامج الحوافز الاقتصادية التي يجرى تنفيذها من الدول المانحة يجب ان يخصص نسبة واحد في المئة من تمويلها لتطبيقات السياسة الإنمائية». وأحصت انه بسبب الأزمة المالية العالمية «فإن 100 مليون شخص دفعوا إلى الفقر المدقع. وبسبب تغير المناخ فإن أوبئة مثل حمى الضنك والملاريا انتشرت في شكل أكبر، تحديداً في افريقيا. وأدت أزمة الغذاء إلى سوء تغذية، ما تسبّب في ضرب انظمة المناعة الصحية، وجعل هؤلاء الناس عرضة للإصابة بالأمراض المعدية». وأخيراً، اعتبرت تسويل ان المسألة هي «مسألة عدالة عالمية وتضامن». وقدرت ثريا عبيد المديرة التنفيذية ل «صندوق الأممالمتحدة للسكان» ان كلفة حزمة متكاملة من خدمات تنظيم الاسرة وصحة الام وخدمات حديثي الولادة قد تبلغ 23 بليون دولار سنوياً. وبدت فخورة بانضمام «شريك ثالث» من خلال منتدى برلين لتفعيل برنامج القاهرة ألا وهو «عنصر الشباب» الذين تقل اعمارهم عن 30 سنة، من خلال «تحالف الشباب» الذي شكل اضافة قيّمة إلى المنتدى. وأعربت عبيد عن قناعتها بأن المجتمع المدني «يساعد في تشكيل أجندة القاهرة ويحض على التزام برنامج الفعل من خلال مواصلة بناء الدليل وإجراء المدافعة وشحذ السياسات وإيصال الخدمات ومحاسبة الحكومات». وأثارت عبيد في كلمتها نقطة ملتبسة تسببت في حال استقطاب بين المشاركين، خصوصاً الانثويين. اذ أصرت «على ضرورة اشراك المجموعات الدينية من أجل تحسين الصحة الإنجابية». وقالت: «ان صندوق الأممالمتحدة انطلاقاً من هذه الروحية يوسع شراكته لتشمل المنظمات القائمة على الايمان، من خلال تأسيس شبكة الاديان العالمية حول مسائل السكان والتنمية، انها شبكة «الارادة» التي تشمل كل الديانات، بما في ذلك التمثيل الاثني والسكان الاصليون. وتكمن أهمية هؤلاء في انهم يعملون على تماس مع حياة ملايين النساء وعائلاتهن». وكشفت عبيد ان المنظمات العالمية القائمة على الاديان تقدم مساهمات ايجابية في مجالين: تحسين الصحة الإنجابية وانهاء العنف ضد الفتيات والنساء. وقالت: «من خلال توحيد القوى يمكن ان نوسع انتشارنا لنصل إلى مخاطبة الانتهاكات التي تتعرض لها حقوق النساء». وفي ما يتعلق بالإجهاض، ذكّرت عبيد بساعات النقاش الطويلة التي شهدها مؤتمر القاهرة في هذا المجال «لحذف او زيادة مزدوجين من هنا او هناك وابتكار لغة خاصة». وقالت: «حتى اليوم فإن الإجهاض يبقى مثار جدل في الاجتماعات الحكومية مع الأممالمتحدة». وأشارت إلى ان النقاشات توصلت إلى انه «حيث يكون الإجهاض قانونياً، فإنه يجب ان يكون آمناً. وهناك اربع دول لا تسمح بالإجهاض تحت أي ظرف، (هي تشيلي ومالطا وبولندا ونيكاراغوا). وفي كل الاحوال فإن النساء يجب ان يحصلن على الخدمات التي تمنع المضاعفات الصحية الناجمة عن الإجهاض وعلى الرعاية والتوجيه في ما بعد، وان تتوافر للنساء المعلومات الصحيحة من أجل اتخاذ الخيارات الصائبة، وأن تلعب الجمعيات الأهلية دوراً حاسماً في توفير هذه المعلومات، وكما ان النساء ممنوع ان يتوفين جراء الولادة كذلك يجب الا يقضين نتيجة الإجهاض». ورأت «ان افضل طريقة لمنع الإجهاض هي منع حصول حمل غير مرغوب فيه. ومن أجل ذلك، تعهد «صندوق الأممالمتحدة للسكان» بالعمل مع شركائه من أجل توسيع الخدمات في مجال تنظيم الاسرة الطوعي... يجب تقوية النساء والازواج من خلال تأمين المدخل للمعلومات والخدمات التي تحسّن حياتهم الإنجابية وحقوقهم». الأزمة المالية العالمية لم تتجاهل عبيد النجاحات التي تحققت خلال ال 15 سنة الماضية، داعية إلى التركيز عليها بدل التركيز على الاخفاقات. وقالت: «هناك المزيد من الفتيات اللواتي دخلن إلى المدرسة. وحصل تقدم في مجال توفير التعليم للجميع في معظم البلدان. وهذه خطوات مهمة في الطريق نحو المساواة». ولفتت إلى «ان ولادات اكثر باتت تحصل اليوم على يد اشخاص يتمتعون بالمهارات الصحية. وفي شرق آسيا فإن كل ولادة تقريباً باتت تجري على يد متمرسين في الشأن الصحي. واليوم هناك المزيد من النساء والازواج الذين يخططون لتأسيس عائلاتهم فيباعدون بين الولادات ويحددون عدد الذين يريدون إنجابهم. ويستعمل المزيد من النساء وسائل حديثة لمنع الحمل. واليوم هناك زيادة في الوعي والفعل في دول كثيرة وداخل أروقة الأممالمتحدة لانهاء العنف ضد النساء والفتيات. وهناك المزيد من المجتمعات التي تعارض ختان الاناث. وثمة تقارير في هذا الشأن من مصر وأثيوبيا وساحل العاج ومالي ونيجيريا». وتبقى هناك «أجندة غير منتهية». فلا تزال الطريق طويلة وتحتاج إلى تسريع الخطى. «اننا بالسرعة التي اعتمدناها حتى الآن لا يمكننا ان نحقق ايصال الخدمات في مجال الصحة الإنجابية إلى الجميع بحلول العام 2015. ونحتاج إلى زيادة التمويل في الوقت الذي نواجه فيه أزمة مالية عالمية ومطالب متنافسة». وقالت: «نحتاج 23 بليون دولار للدول النامية في العام 2009 لتأمين خدمات تنظيم الاسرة والصحة الإنجابية وللاطفال الحديثي الولادة. لا يتوافر سوى اقل من نصف هذا المبلغ. نحتاج للانتقال من الخطابية إلى بنود الموازنة، والتأكد من ان خدمات انقاذ الارواح تمول بالكامل. وهذا مهم جداً للدول التي تواجه الأزمة المالية. ونحن في صندوق الأممالمتحدة نتوقع خفضاً في تمويلنا، ما سيؤثر فينا. ونحتاج ايضاً الى تحفيز كل المؤتمرات والتجمعات المقبلة لحشد المزيد من الاهتمام والموارد نحو النساء والصحة الجنسية والإنجابية». واذ شددت عبيد على «ان التركيز يجب ان يكون على الرجال كشركاء من أجل المساواة»، اعلنت عن تأسيس مجموعة استشارية من جمعيات أهلية لمصلحة صندوق الأممالمتحدة للسكان، يتم اطلاقها في كانون الثاني (يناير) 2010.