بينما كان بعض العالم «يحتفل» بالاتفاق الذي تم التوصل اليه بين ايران ومجموعة الدول الخمس الكبرى (زائد المانيا)، ويحلل تداعياته اقليمياً ودولياً، كان «عالم آخر» يتوجس خيفة من هذا «التفاهم» ويخشى ارتداداته المحتملة، فيما كانت الاطراف المعنيه مباشرة بالامر تتبادل الاتهامات وكأن شيئاً لم يحدث، وبدا كما لو ان الاتفاق الايراني- الغربي وليد ظروف ترتبط بالتكتيك اكثر منها بالاستراتيجية، ليصبح «اتفاق الضرورة» وكأنه عبء على كل طرف معني بالاتفاق ويواجه صعوبة في اقناع شعوب هذه الدول في الدفاع عنه، وما هي المكاسب والثمار التي سيجنيها كل طرف جراء فتح هذه الصفحة الجديدة بين الجمهورية الاسلامية الايرانية، والدول الغربية في شكل عام. ومن يستمع الى تصريحات بعض المسؤولين في الدول المعنية يدرك كأن خطأ ما قد حدث. وهذه بعض نماذج الكلام: وزير الخارجية الاميركي جون كيري، أحد عرابي هذا الاتفاق، شكك في نيات ايران تنفيذ مضمون «الاتفاق النووي» مما يطرح اكثر من علامة استفهام حول الموضوع. في المقابل شن المرشد الأعلى السيد علي خامنئي حملة عنيفة على الولاياتالمتحدة، واستخدم في خطاب له مئة وثلاث مرات كلمة «الاستكبار» في اشارة الى «العدو الاميركي»، كما استحضر سير ادولف هتلر وبنيتو موسوليني وذكّر بأبشع المشاهد التي خلفها قصف هيروشيما ونكازاكي بالقنبلة الذرية التي خلفت الدمار والخراب في «الاختبار التجريبي» الذي اقدمت عليه الولاياتالمتحدة ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية. ويشير تكرار اللهجة نفسها ومفردات زمن «الشيطان الاكبر» «ومحور الشر» الى أنها ما زالت اللغة الرائجة. لا بل ذهب الرئيس باراك اوباما الى ابعد من ذلك عندما انتقد «سلوك ايران التخريبي» وأجرى مقارنة بين طريقة تعامله مع النموذج الايراني وتجربة رونالد ريغان مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة والتي انتهت بتهاوي المعسكر الشرقي. وهنا التساؤل: هل يراهن باراك اوباما على اسقاط النظام الايراني عبر هذا التحول الاميركي؟ وفي هذه الحال مطلوب «غورباتشوف ايراني»! ومطلوب كذلك «بيريسترويكا» من انتاج محلي! وفي معرض كلامه عن العلاقات الاميركية- الايرانية لم يدع اوباما هذه السانحة تمر من دون توجيه رسالة الى اسرائيل مؤكداً «أن ادارتي ملتزمة الى اقصى الحدود امن اسرائيل»، ليخلص الى الاستنتاج التالي: «ان الديبلوماسية مع ايران والاتفاق المرحلي لإبطاء برنامجها النووي كان افضل الخيارات في هذه المرحلة». وبدا واضحاً ان الرئيس الاميركي بعث برسالة تطمين الى اسرائيل، التي ثارت ثائرتها على التفاهم مع ايران، مشدداً على طروحاته القائلة إن ايران هي «الخطر الأكبر على المنطقة». لكن السيد بنيامين نتانياهو ما زال غاضباً من السياسة التي دعت الى عقد هذا الاتفاق مع ايران. لكن الانتهازي نتانياهو انتهز الفرصة لابتزاز جون كيري وباراك اوباما ليطالب ب «نوع آخر من الضمانات لأمن اسرائيل»، حيث يربط بين التفاهم مع ايران من جهة واستئناف المفاوضات الفلسطينية- الاسرائيلية من جهة ثانية لتوفير «فرصة سانحة» للحصول على المزيد من واشنطن، وهذا ما سنتحدث عنه لاحقاً في هذا العرض التحليلي. اذاً ومع التوصل الى الاتفاق بين ايران والدول الخمس الكبرى (زائد المانيا) فإن اجيال الاحقاد والكراهية بين طرفي الاتفاق لا تزال اقوى من اي اعتبار تفاؤلي، لكن اعتماد الاسلوب البراغماتي المستند الى المصالح المشتركة هو الكفيل بوضع هذا التفاهم على خط ايجابي تحتاج اميركا لنتائجه (ضبط النووي الايراني) وتحتاجه ايران لأكثر من جانب، ليس اقلها رفع العقوبات التدريجي عنها بعدما الحقت هذه العقوبات الكثير من الضرر بمصالحها. وفي ضوء بعض المعلومات التي تم تسريبها عما دار في الساعات الاخيرة التي سبقت الاعلان النهائي، ان جون كيري طرح فكرة «الصفقة المتكاملة»، وألا يقتصر الامر على الجانب النووي فحسب، لكن الوفد الايراني برئاسة وزير الخارجية محمد ظريف رفض الاقتراح ودعا الى التعامل ب «التقسيط المريح» في كل ما يتصل بأزمات المنطقة، فيما سعى الجانب الغربي (الدول الخمس زائد المانيا) الى «الافادة من اللحظة» وبخاصة الوضع الشديد التأزم في سورية وقيام «معاون مشترك» بين الطرفين. وابلغت مصادر متابعة لاجماعات «جنيفالايرانية» «الحياة» ان اقتراحاً قد قُدم من جانب الدول الغربية من اجل التوصل الى اتفاق لوقف اطلاق النار تمهيداً لانعقاد مؤتمر «جنيف-2»، لكن الوفد الايراني عارض هذه الفكرة وحتى الخوض فيها مطالباً الدول الغربية بوقف امدادات السلاح والمال ل «الثوار» في سورية، وهذه هي الطريقة الوحيدة لوقف نزيف الدم الهادر على مختلف الاراضي السورية. وتم الاتفاق من حيث المبدأ على استئناف اللقاءات المشتركة لاختبار مدى جدية ايران الالتزام بهذا الاتفاق، كما تكون الفترة الزمنية القادمة هي المحك لمدى احترام الدول الغربية للتعهدات التي قطعتها على نفسها، والتي يفترض ان تبدأ برفع تدريجي للعقوبات المفروضة على ايران، ورفع اليد عن الاموال الايرانية المجمدة في الولاياتالمتحدة وهذا ما سيكون محور اللقاءات المشتركه التالية، بخاصة أن الرقابة على القدرة النووية الايرانية بدأت فعلاً في حملة اقصاها سته اشهر. وفي جانب آخر وبصورة غير رسمية تم تسريب المعلومات المتصلة بوقف الامدادات العسكرية ل «الجيش السوري الحر» في موقف احتجاجي على «تزايد نفوذ المتشددين في سورية» حيث تدور المعارك الضارية بين «الجيش الحر»، والفصائل المشتتة، وهو الامر الذي جعل الدول الغربية تدرك مخاطر سيطرة العناصر المتطرفة في الداخل السوري. وفي سياق متصل أبلغ وزير الخارجية البريطاني وليم هيغ مؤتمر المنامة «ان جنيف-2 اذا لم تشارك فيه المعارضة المعتدلة، فإن سورية سائرة نحو التفتيت». وأثار هذا الكلام لغطاً كبيراً في كواليس مؤتمر البحرين في المنامة، اذ اعتبر الائتلاف السوري كلام هيغ نوعاً من التهديد وممارسة المزيد من الضغوط على المعارضة للمشاركة في «مؤتمر جنيف-2». هذا ما يتصل بالجبهة السورية، فماذا عن نشاطات اخرى تجري بهدوء ولو مريباً في المنطقة بالذات؟ جواب: المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي والذي يخصص له وزير الخارجية الاميركي جون كيري الحيز الرئيس من اوقاته واهتماماته. لكن ما الذي يميز هذه الجولة التفاوضية بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي؟ جواب: يسعى الرئيس اوباما لبذل «جهود قياسية» كما وصفها البيت الابيض، للتوصل الى إحداث «اختراق ما» على هذا المسار. وهو حدد فترة تسعة اشهر للتوصل الى «تسوية ما» وكشف النقاب عن اقتراح تقدمت به الولاياتالمتحدة الى اسرائيل يتعلق «بمستقبل الاردن»، عارضاً ان تساعد قوات اميركية على الامن في المنطقة. وينص هذا الاقتراح على ما يلي: يجرى العمل على مرحتلين، الاولى انتقالية وتنشر فيها اسرائيل قواتها في مناطق محددة مع مساعدة دولية ونقاط مراقبة متقدمة ونشر انظمة دفاعية. وفي المرحلة التالية تقدم الولاياتالمتحدة اجابات عن مطالب اسرائيل الامنية حول حجم القوات الفلسطينية التي ستحافظ على الحدود وطبيعتها والتسلح الذي ستوفره لهما الولاياتالمتحدة ومحطات الانذار التي ستطالب بها اسرائيل وتأمين الحركة الجوية لاسرائيل في حال تراجعها الى حدود 1967. لكن لا يبدو ان الاقتراح الاميركي يلقى قبولاً من جانب اسرائيل مع ان المشاورات في شأنه مستمرة. وبعد... اولاً: قلنا في المقال السابق ان الطريق بين طهرانوواشنطن أصبحت سالكة لكنها ليست آمنة («الحياة» 23/11/2013)، وهذا ما بدأ يتضح ولو في شكل تدريجي بحيث ان التفاهم الايراني- الغربي له من يؤيده ومن يعارضه، وهذا هو الوجه الجديد للصراع في المنطقة. ثانياً: أصبحت طهران مركز الجذب السياسي لأكثر من طرف، ومنذ الاعلان عن الاتفاق النووى مع الدول الغربية حدثت تحركات عدة في المنطقة منها الزيارة المفاجئة لوزير الخارجية الايراني محمد ظريف الى دولة الامارات العربية المتحدة، رغم الازمة الناشبة بين الجانبين حول سيطرة ايران على الجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى. وقد قام برد الزيارة على الفور وزير خارجية الامارات الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان. كذلك لوحظ تسريع المشاورات وتكثيفها بين تركياوايران وبين تركيا والعراق. وفي هذا المجال تمكن الاشارة الى ما صرح به رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري من ان الكلمة الآن في طهران أو لها. في المقابل رحب مجلس التعاون لدول الخليج العربية بالاتفاق مع ايران بعد تردد وتحفظ، وهذا ما جرى التأكيد عليه في القمة الخليجية الاخيرة التي انعقدت في الكويت. ثالثاً: يجب التذكير لدى الاوساط التي تحاول استعجال الحصول على نتائج مباشرة من التفاهم الايراني- الغربي ان السنين الطويلة من الشكوك المتبادلة بين الجانبين ستأخذ مداها بعد دخول المسار والصراعات والنزاعات في المنطقة نفقاً جديداً، ولذا يجب التريث والانتظار والصبر ولو قليلاً. فاذا كانت العلاقات بين طهرانوواشنطن اخذت كل هذا الوقت الطويل، منذ قيام الثورة الاسلامية في 1979، فيجب التحلي بالحكمة والصبر والرؤى الواضحة. وإلا فإن قطار الحل الذي وضع على السكة الجديدة لن ينتظر المترددين، فلا تدعوا هذه الفرصة تفوتكم! * إعلامي لبناني