لم تعد تخفى عن عين المراقب حال القلق الزائد استثنائياً في دوائر منظومتي الأمن الدولي والإقليمي. القلق موجود منذ زمن غير قصير، ربما منذ تأكد للغرب أن حربي العراق وأفغانستان تجاوزتا الوقت والجهد والكلفة المتوقعة لهما، ومنذ صار جلياً للأميركيين خاصة والغربيين عامة أن اتفاقية الصلح المصرية - الإسرائيلية لم تتطور في الاتجاه المأمول وهو نشأة نظام أمني جديد في الشرق الأوسط. استطاع لاعبون كثيرون في العالم التكيف مع هذا القلق إلى أن حلت لحظات بدت عندها الدول الكبرى ودول إقليمية عاجزة عن تحمل هذا القلق. وأعتقد أن لدى هذه الأطراف من الأسباب ما يبرر لها تجاوزها حدود القلق المشروع وهرولتها بحثاً عن بدائل تحقق لها مقداراً من الاستقرار الأمني وتحصيناً أوفر لحالها الدفاعية. أستطيع أن أفهم. فقد حدثت بالفعل تطورات عدة، تكاد تكون مترابطة، وهي بالتأكيد متلاحقة ومتصاعدة، أدت من دون شك إلى تفجير حال قلق استثنائية في أجهزة الدفاع ومنظوماته في دول وتكتلات عدة. جاء في صدارة هذه التطورات قرار الولاياتالمتحدة الأميركية إعادة توزيع اهتماماتها الدفاعية في أنحاء العالم. كان دافعها الحقيقي التوصل إلى وضع دفاعي يتناسب مع تراجع المكانة الاقتصادية النسبية لأميركا وعجز الموازنة وقرب تخلص الولاياتالمتحدة من عبء الاعتماد على نفط الخارج، ولكن يتناسب أيضاً مع الصعود المطلق والنسبي للصين في منطقة شرق آسيا مع كل ما يمثله هذا الصعود الأسطوري من اعتبارات تتعلق بهيكل توازن القوى في الإقليم وفي العالم. الواضح أن تعبير إعادة توزيع القوة الأميركية لم يلقَ قبولاً لدى طرفين ارتبط أمنهما ارتباطاً مباشراً لعقود طويلة بخطط الدفاع الأميركية، هذان الطرفان فسرا التغيير في السياسة الدفاعية للولايات المتحدة على أنه انسحاب استراتيجي من غرب أوروبا والشرق الأوسط لمصلحة شرق آسيا. هما الآن لا يخفيان في خطاباتهما العتاب المشوب بالغضب لأنهما لم يستشارا على رغم أنهما شريكان، وإن بدرجات متفاوتة، في منظومة الدفاع الغربي. عاتبان أيضاً لأن أميركا لم تترك لهما بديلاً أو مشروعاً مناسباً ليحل محلها أو على الأقل يسد جانباً من فراغ ستخلفه وراءها بالتأكيد. يأتي بعد ذلك توصل الولاياتالمتحدة إلى اتفاق مبدئي مع إيران كتطور ثان أثار أسباباً جديدة للارتباك والفرقة في صفوف شركاء أميركا في منظومتي الدفاع الغربي في الشرق الأوسط والأطلسي على حد سواء. هنا في الشرق الأوسط اختلطت المواقف بين مرحب سراً وشريك «نائم» في خطة التوصل إلى الاتفاق وبين رافض سراً ولكن بغضب وتوتر لم يستطع إخفاءهما، أو رافض علناً وجهراً، وهو في هذه الحال إسرائيل التي تهدد بتخريب الاتفاق التمهيدي قبل أن يتوصل الطرفان الإيراني والأميركي إلى اتفاق نهائي. دليل الارتباك هو الرهان على توافق ناشئ يجمع بين عرب محبطين وإسرائيل، وهي أيضاً محبطة، ينتهي بتشكيل منظومة إقليمية جديدة تختص بأمن الشرق الأوسط. بمعنى آخر يتحقق بالاتفاق المبدئي بين أميركا وإيران وبنوايا الانسحاب الأميركي نحو شرق آسيا خطوة في اتجاه تحقيق ما عجزت واشنطن عن تحقيقه بمعاهدة الصلح المصرية - الإسرائيلية. هناك في غرب أوروبا غلب الترحيب باتفاق جنيف المبدئي على المعارضة الشكلية التي كادت تنفرد بها سياسة فرنسية غير مقنعة، إلا أنه لا يمكن إنكار أن الاتفاق فتح على المصراعين من جديد، باب النقاش الحار حول حاجة الغرب إلى «عقيدة» دفاعية جديدة. لم يعد ممكناً الاستمرار في تجاهل حقيقة لا مبالاة الرأي العام الأوروبي تجاه قضايا الدفاع. وفي الوقت نفسه لا يزال الاقتناع سائداً بفشل أي محاولة لإقناع شعوب أوروبا بالتنازل عن جزء من سيادتها لإقامة جيش أوروبي موحد طالما استمر عجز المسؤولين العسكريين عن تقديم جدول أولويات لمهام منظومة أمن غربية جديدة. معذور الرأي العام الأوروبي إذا رفض التضحية بجزء من سيادته أو سعادته ورخائه وهو لا يعرف بالتأكيد من أي مكان يأتي خطر التهديد لأمن أوروبا. لم يحدد له أحد مصدر التهديد أو العدو الملموس أو حتى المحتمل. لن تفلح المحاولة، أو على الأقل ستكون صعبة ومعقدة، في ظل إصرار أميركا على التخلص من مسؤولياتها الدفاعية في أوروبا والشرق الأوسط وكذلك في ظل أزمة اقتصادية تعصى على الحل. يمكن في هذا السياق تفهم الرضا الأوروبي على اتفاق جنيف حول العلاقة مع إيران، اعتبره الأوروبيون فرصة للتخلص من أحد مصادر الصراع في العالم وتخفيف العبء الملقى على عاتق منظومة الدفاع الغربي في مرحلة قد تشهد قريباً انسحاب أميركا من بعض مسؤولياتها فيها. تفاقمت واتسعت الأزمة السورية وتبدلت حظوظ أطرافها الدولية والإقليمية والداخلية لتشكل جميعها التطور الثالث الذي أثار موجة القلق والارتباك التي تكتسح حالياً منظومة الدفاع الغربي. وقع في تصور مسؤولي الدفاع في الغرب أن من الممكن التعامل مع الثورة السورية بنمط تعاملهم مع الثورات العربية الأخرى. وضعوا آمالاً كبيرة على أن القوى الإقليمية، خصوصاً العربية قادرة على مساعدة الثوار المحليين على تحقيق نصر سريع. فاتَهم أن سورية بحكم أمور كثيرة لا يقدّر أهميتها إلا من تعامل مع المشرق بعقلية تنبذ منهج الاستشراق في دراسات العلاقات الدولية يمكن أن تخيب أمل التقليديين في منظومة الدفاع الغربي. وهو ما فعلته. نراهم الآن وقد استفحل الأمر عليهم يبحثون عن مخرج سريع وعن صيغة جديدة للتعامل مستقبلاً مع أزمات من هذا النوع مستفيدين من دروس أمكن استخلاصها. أهم هذه الدروس هو أن الإقليم في حاجة ماسة إلى منظومة دفاع تشكلها دول غير عربية مع دول عربية. يعتقد كثر منهم أنه لا حل ممكن من وجهة نظرهم لأزمة مماثلة تنشب في المستقبل من دون مشاركة من دول الجوار، كذلك فإنه من غير الممكن إقامة منظومة دفاع فاعلة من دون حل مشكلات حيوية في الإقليم يكون للغرب أو للأمن الدولي علاقة بها، لذلك ارتضت الدول الأوروبية الحل الأميركي للأزمة الإيرانية كشرط كامن لحل الأزمة السورية وما يستجد من أزمات في الشرق الأوسط، وهي أيضاً على استعداد للضغط على إسرائيل لتمرير حل الدولتين بالسرعة الممكنة، فالظروف العربية وفق رأيهم مواتية وقد لا تتكرر. يبقى تطور رابع أثار قلق وارتباك خبراء الدفاع الأوروبيين. لا شك للحظة في أن خبراء الدفاع الروس استشعروا كرفاقهم في غرب أوروبا خطورة القرار الأميركي وأهميته بالانسحاب من غرب أوروبا والشرق الأوسط. هؤلاء لم ينتظروا ولم يتركوا الأزمة السورية تتدهور في أيدي قوى محلية لن تقدر خطورة التهديد الذي يمكن أن يمثله هذا التدهور في سورية وإقليم الشرق الأوسط لأمن قوة كبرى ومصالحها مثل روسيا. أعتقد أن روسيا ما كانت لتقدم على التدخل في الأزمة السورية لو أنها كانت واثقة من أن الولاياتالمتحدة ستستمر القوة القابضة على الدفاع والأمن في الشرق الأوسط. هكذا، عادت روسيا إلى الإقليم ولا أظن أنها ستخرج منه قبل أن يعترف بها ولها كل اللاعبين الدوليين والإقليميين طرفاً مؤسساً لأي منظومة أمن جديدة في الإقليم. فرأت عن مؤتمر لخبراء استراتيجية غربيين عقد في أمستردام واجتماعات أخرى في المنامة والدوحة ومنتجعات شتى. فهمت مما قرأت أن جميعها ناقش مسائل الدفاع الغربي على ضوء التحول المهم في العقل العسكري الأميركي وتطورات الأزمة السورية والحال المصرية. فهمت أيضاً أن قضايا الأمن في الشرق الأوسط، بخاصة قضية أمن مصر تحتل الصدارة في جداول أعمال هذه اللقاءات المهمة. في هذا السياق يحق لي أن أسأل عن دور العسكريين العرب، مفكرين وقادة، في هذه المرحلة الدقيقة في تاريخ الفكر الاستراتيجي الدولي. لن يفيد القوى الحاكمة في الوطن العربي ولن يفيد أمن بلداننا، بل ولن يفيد أمن العالم من حولنا أن نبقى وحدنا بعيدين من أفكار تأسيس نظام أمني جديد في الإقليم سواء بحجة أن أمور الدفاع أسرار مقدسة لا يجوز أن يطلع عليها مواطنون عاديون، أو أنها من اختصاص العلم العسكري ولا يفهم لغتها المدنيون. * كاتب مصري