بين الإبداع عموماً والأدب خصوصاً والواقع، بغض النظر عن زمن هذا الواقع، تشابه في أحيان، وتطابق في أحيان أخرى. ويقولون إن هذه الرواية واقعية أو أن تلك القصة تدور حول أحداث حقيقية إذا ما نقل الكاتب واقعة وأضاف إليها من خياله أو عرضها بأسلوبه الخاص، لكن المدهش أن تقع أحداث في أي مكان وكأنها تحاكي ما كتب قبل عقود، أو قل قبل قرون، ولو ضمن صورة تعبيرية مختلفة. وثمة محاكاة من ثورات الربيع العربي، ومصر نموذجاً، لأوبرا كارمن رغم اختلاف البعدين الزمني والجغرافي بين المشهدين، ما يرسخ ذلك الاعتقاد بأن الإبداع العالمي، أو حتى المحلي، أو قل الخيال، يكون أحياناً عاكساً لأحداث أو وقائع نصنعها في المستقبل! يُفترض أن يحلل أهل الأدب الظاهرة أما محترفو السياسة فهم، في حالة الربيع المصري مثلاً، شخوص ضمن حكاية «كارمن الثورية المصرية» يؤدون أدوارهم كما رسمها الكاتب الفرنسي بروسبير مريميه في روايته «كارمن» العام 1846، قبل أن يأتي المبدع جورج بيزيه ليصوغها في أوبرا حملت الاسم نفسه العام 1873. وهم يعيدون مشاهد الرواية من دون أن يدروا أن الأحداث ربما تؤول بهم إلى النهاية نفسها التي انتهت إليها كارمن! بين بحثها عن الحرية مقابل التسلط والانطلاق مقابل الديكتاتورية تحولت كارمن الرواية في نهاية الأمر إلى مأساة. تلك الفتاة الغجرية أجادت استخدام مهارتها في أن تُوقع بالرجال واحداً بعد الآخر، وفي كل مرة تفشل في الاحتفاظ بأحدهم، أو قل ترفض، بدعوى تمسكها بالحرية، وتصديها لاستحواذ أحدهم عليها، وهي دائماً تخون كل رجل بعد أن تنصب شباكها حوله، وتورطه معها، وتربط مصيره بها. وبين الفارس والشرطي تسعى إلى تحطيم الاثنين بمزاجها المتقلب قبل أن تلقى حتفها بسكين حاد نتيجة جرائمها التي لم تر فيها خطأ أو جرماً، وإن أدركت أنها عاشت مأساة سعت دائماً إلى تحميل الآخرين المسؤولية عنها. هي قصة من وحي خيال كاتب ذاع صيته بعد تحويلها إلى أوبرا يتمحور موضوعها حول الحب والكراهية والاستحواذ والانطلاق والوفاء والانتقام... والجنون أيضاً. في عالم السياسة لا يوجد خيال وإنما نظريات في كتب، أو وقائع في التاريخ. لكن في السياسة أيضاً مواءمات واتفاقات وتحالفات وكراهية واستحواذ وانتقام... وجنون. وما يجري على الساحة المصرية الآن فيه كل مفردات كارمن، فالخيانة أو التخوين، والمؤامرات أو التآمر، والحرية والتسلط كلها كلمات تحولت بفعل الصراع حول الثورة أو «كارمن الثورة» إلى أفعال تمارس قد تقود إلى المصير نفسه الذي انتهت إليه كارمن... الفناء! غازلت الثورة المصرية كل الأطراف وطمعتهم فيها، وداعبت الشباب الثوريين وعلّت من طموحاتهم، ومنحت الإسلاميين ما لم يحلموا به، ثم عصفت بهم، وأنعشت آمال النخبة في الظهور والسلطة، فحرقت بعضهم، واغتالت معنويات البعض منهم، وظلت حتى الآن توحي للكل بأنها تفجرت من أجل هذا الفصيل فقط، أو لصالح هذا الحزب فحسب، أو ذاك الزعيم وحده!! حتى الأقباط أخرجتهم من عزلتهم لكنها أوجعتهم بحوادث قتل وعنف ودماء. انتقمت كارمن من كل رجل غضبت عليه برجل آخر، من دون التفات إلى تأثير الأمر على سمعتها، أو صورتها، أو مصيرها. أما الثورة المصرية فأطاحت مبارك ورجاله لفشله في التعامل معها، ثم عصفت بطنطاوي وعنان والمجلس العسكري لتردده أحياناً واندفاعه في أحيان أخرى، وانتقمت من شباب الثورة لرعونة بعضهم أو تهورهم وحساباتهم الخاطئة، ثم عزلت الدكتور محمد مرسي، وحرمت «الإخوان» حكم مصر بعد عجزهم عن إدارتها، أو لرغبتهم في الاستحواذ عليها. كلهم سعوا إلى كسب ود الثورة والفوز بها، لكنها عصفت بهم، ودمرت بعضهم، وقضت على آخرين منهم، بينما الشعب أو جمهور الثورة أو الحضور في كارمن فيبدو أن غالبيتهم رغم لهثهم وتعبهم من ملاحقة المأساة قد ارتاحوا من غرور كارمن... أو سطوة الثورة. هل انتهت القصة... أو الأحداث في مصر؟ بالقطع لم تنته بعد. صحيح أن كارمن كتبت نهايتها بتصرفاتها وأخطائها وحماقتها إلا أن الثورة المصرية ما زال لديها مزيد من التفاعلات، وهي مستمرة على نهجها، تخضع لمن يريد، وتنساق نحو طموحاتها. ويبدو وكأنها تنتظر سكيناً حاداً يكتب بدمائها الفصل الأخير.