التعليقات الأولية الصادرة عن أوساط أمنية وإعلامية في لبنان حول ملابسات اغتيال حسان اللقيس، أحد القادة الميدانيين في «حزب الله»، تستحق بعض الانتباه. فهي تكاد تجمع على أن أسلوب الاغتيال جديد مقارنة باغتيالات سابقة استهدفت قادة ومسؤولين في الحزب، واعتمدت التفجير والسيارات المفخخة. هناك درجة عالية من الاحتراف في العملية التي استهدفت اللقيس قبل بضعة أيام أمام مسكنه في منطقة محاذية للضاحية الجنوبية معقل «حزب الله». ويبدو أن الرجل الذي سبق وتعرض لمحاولات اغتيال إسرائيلية، كان من النوع الذي يرى أن أفضل وسائل التنكر والتخفي عدم التنكر مع تفادي الظهور. ويعني هذا أن الاحتراف لا يتعلق فحسب بطريقة الاغتيال عن قرب وبمسدسات مزودة كواتم للصوت، بل كذلك بالرصد والتعقب والاستطلاع. فوق ذلك يأتي تبني العملية من جهتين يضج توقيعاهما واسماهما بصفة مذهبية سنّية ليعزز فرضية الاحتراف وتذويب العملية في معمعة حرب طائفية بين السنّة والشيعة في غير بلد مشرقي. درجة الارتجال التي وسمت عملية التبني، تبدو فاقعة إلى حد يجيز الاعتقاد بصدورها عن غرفة أمنية واستخباراتية تتقن فن تصفية الحسابات في ظروف ملائمة ومناخات ذات سيولة عنيفة تتيح بسهولة «ضياع الطاسة» أو تضييعها، وفق عبارة سائرة. والحال أن عملية اغتيال اللقيس الذي يتجول من دون حماية ومرافقين، ليست من الطراز الثأري القبلي والطائفي المعهود. لا يمنع هذا أن البنى القبلية والطائفية في بلادنا حصلت هي أيضاً على تقنيات «حديثة» في استخدام العنف وممارسة الانتقام. مع ذلك، تحفل العملية الأخيرة بعلامات ومؤشرات تجيز المقارنة بعمليات اغتيال احترافية كاغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة في بيوتهم في بيروت عام 1973، أو اغتيال الرجل الثاني في حركة «فتح»، أبو جهاد، في منزله في ضاحية تونس، أو اغتيال القائد العسكري في حركة «حماس» محمود المبحوح في دبي، أو أيضاً اغتيال علماء فيزياء يعملون في البرنامج النووي الإيراني. وهي عمليات تحمل كلها توقيع الاستخبارات الإسرائيلية، وإن كانت تنفّذ أحياناً بمساعدة وتواطؤ محليين، كما الحال في قتل العلماء الإيرانيين داخل المدن وبمساعدة عملاء إيرانيين جرى تجنيدهم، أو جندوا أنفسهم، كما تحدث صراحة غير شريط وثائقي عرضته قنوات تلفزيونية غربية. صحيح أن الحكومة الإسرائيلية نفت أي علاقة لها باغتيال اللقيس، وإن كانت وسائل الإعلام احتفلت بالنبأ، كما حصل بالضبط إثر الإعلان عن اغتيال القائد الميداني ل «حزب الله» عماد مغنية قبل خمس سنوات في العاصمة السورية. ينبغي التذكير هنا، بأن الحكومة الإسرائيلية التزمت الصمت إثر كشف السلطات الأمنية في دبي اغتيال المبحوح واتهام «الموساد» بذلك، ثم أثارت قضية استخدام جوازات سفر أوروبية مزوّرة احتجاج بعض عواصم البلدان المعنية التي رأت في الأمر ضرباً من التوريط غير المقبول. ثم جرت لفلفة الأمور وإقفال الملف. قد يكون ما سبق مفيداً في المجال الإعلامي والتحليلي الإخباري. غير أن ما يعنينا أكثر، بالأحرى ما يؤلمنا أكثر، هو حصول عملية الاغتيال وسط مناخ، أو سيرورة إذا شئتم، من تصدّع الروابط الوطنية وأطرها الجامعة والمشتركة. فعلى خلفية النزاع السوري المفتوح ومشاركة غير طرف لبناني فيه، بهذه الطريقة أو تلك، أي مباشرة أو بالواسطة والوكالة المغفلة، يتجه الوضع اللبناني نحو تبديد فرص التسويات الممكنة، وبناء السياسة على الحد الأدنى من المدركات المشتركة. والحق أن النزاع السوري المفتوح على المجهول والمتزايد طابعه الأهلي والطائفي، وفي رعاية قوى إقليمية متنافسة، لم يفعل سوى تعميق الانقسام العريض الذي أعقب اغتيال رفيق الحريري. لكن الاصطفافات العريضة آنذاك لم تمنع العثور على تفاهمات تبين لاحقاً أنها هشة وتقوم على لعبة احتواء يتبادلها طرفا النزاع. وفي خلفية النزاع ثمة صراع على معنى الفكرة الوطنية ووجهتها. فمن المعلوم أن الوطنيات، والنزعات القومية، تنشأ ضد وطنيات وقوميات أخرى يُنسب إليها كل الشر وكل الظلم اللذين يلحقان بجماعات وطنية تطمح إلى السويّة وإلى استقلال وسيادة لائقين ومستحقين. في هذا المعنى، في لبنان وطنيتان، الأولى تضم مروحة من القوى عمودها الفقري «حزب الله» وهي تعتبر الصراع مع إسرائيل، أياً كان شكله، أساس الفكرة الوطنية. تضم الثانية مروحة من القوى أيضاً تعرف باسم 14 آذار وهي تعتبر الصراع مع نظام الوصاية السورية الأسدي أساس الوطنية اللبنانية. من المفيد ربما التنويه بأن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط يترجّح، ولا يزال، بين الوطنيتين هاتين، ويتقلّب على جمر مفاعيلهما. كل من هاتين الوطنيتين لا تعدم الوجاهة والشرعية لاعتبارات تاريخية وسياسية بدهية. مع ذلك تبدو شروط التوليف بينهما صعبة، بل حتى تزداد صعوبة نظراً إلى حجم الارتباط الذي يعقده ممثلو الجماعات الوطنية مع الحلفاء والرعاة الإقليميين. السائد في لبنان حالياً هو تعاظم الفائض السجالي الذي بات يحتل القسم الأكبر من مساحات الاصطفاف ومن المشهد الإعلامي، من دون أن يعفي من جاذبيته عديد المثقفين والمتنورين والناشطين. لا يعود مستغرباً، في هذه الحال، أن يحفل المشهد بكلام وبحبر كثيرين يهدفان، هنا وهناك، أي في البيئتين الأهليتين الحاضنتين لطرفي النزاع، إلى إعضال الخصم وإخضاعه للمماحكة والحزازة والنكاية والشماتة. وفي وضع كهذا تصبح كل الاحتمالات ممكنة. فالسماكة الوطنية الداخلية التي وعدنا الربيع العربي بانتصابها مداراً لسياسات مستقلة، راحت تتكشف عن انبثاق شتى المكبوتات الأهلية وجموحها إلى الاستيلاء العنيف على السياسة، وهو استيلاء يستدعي بطبيعة الحال القبض على السلطة ومفاصلها. انهيار الروابط الوطنية، وبدرجات تتفاوت بين بلد «ربيعي» وآخر تبعاً لخصوصيات التاريخ وأنماط التنظيم الاجتماعي، بات ينذر بما هو أخطر: ذواء أي رابطة اجتماعية لا تقوم على القرابة والمعتقد والانتماء الجهوي أو الطائفي أو الإتني. في بلدان تنهار فيها المؤسسات والروابط الوطنية، ويحتمي الناس بالصلة التي توفرها متحدات «طبيعية»، تنهار أيضاً فكرة المجتمع، وينطبق هذا على فكرة الشعب أيضاً. فبين الدال والمدلول ترعى غزلان كثيرة وهائجة.