استوقفه شخص ما في الشارع، وسأله عن عنوان جهة حكومية، وقبل أن يُجيبه، شَعَر باضطرابه وارتسمت على ملاحمه علامات رعب، وفجأة أطلق ساقيه للرياح ناظراً إليه في هلع حتى اختفى، اعتقد أنه مجنون، أو ربما يُعاني من أزمة نفسية، وأكمل طريقه إلى مقر عمله. رمقه عامل «الريسبشن» بنظرة ريبة لحظة دخوله، ولا حظ أن الزملاء غير طبيعيين، طرد هاجس الرجل المجنون في الشارع، ورسخ في عقله أن ما يحدث هلاوس، وأن الجميع بخير، وأنه أيضاً بخير. ثوانٍ ولم يبق في الغرفة إلا هو، انسحب الزملاء، عاد مشهد الرجل المجنون ليُسَيطر على عقله، فطرده من جديد وأخرج من أحد الأدراج ملفات، وانهمك في واحد يجب أن ينجز اليوم، وبعد دقائق وجد رئيسه في العمل يقف على رأسه بصحبة آخر، ويبدو عليهما أيضاً خوف غامض، أكمل عمله وتجاهل وجودهما المريب، بعد قليل تشجع الرئيس وقال بارتباك: يمكنك الراحة اليوم، أنت إجازة. فى المنزل تأكد أن رائحته طيبة، وأن ملابسه نظيفة وأن ملامحه لإنسان وليست لقرد أو كائن مخيف بعين واحدة، وأنه وسيم أيضاً بعد أن أطال لحيته قليلاً عن المعتاد، وتأكد كذلك من أوراقه الثبوتية، وأن اسمه كما هو، وصورته في البطاقة تتماثل مع التي في المرآة، إذن كل شيء كما هو، فماذا جرى لكل هؤلاء الأوغاد؟ تكرر الأمر نفسه في العمل في اليوم التالي، وانتهى أيضا ب: يُمكنك الراحة اليوم، أنت إجازة. بالإضافة إلى أن سائق التاكسي أثناء توصيله كان مرتبكاً وخائفاً، وما إن ترجل من السيارة حتى زمجرت العربة وانطلقت كسهم ولم يتقاضَ السائق أجرته، فتأكد أن ثمة أموراً غامضة لا يدريها، أو أن هذه البقعة من العالم أصيبت بمرض عُضال. بحث في دليل الهاتف عن رقم طبيب نفسي شهير، يشاهده مساء كل إثنين في برنامج فضائي عبر التلفزيون، وبالفعل حجز موعداً في مساء اليوم نفسه، وحاول قدر الإمكان التخفي، لكي لا تحدث الأفعال المريبة نفسها من الآخرين، حجب رأسه بغطاء يخفي جبهته، ويداري عينيه، ولف رقبته وأسفل ذقنه بشال، ولم يظهر منه إلا فمه وأنفه لدواعي الحديث والتنفس. انتظر قليلاً على مقعد وثير، حتى سمحت له فتاة مريحة الملامح بالدخول إلى الطبيب، كان أنحف قليلاً من طلته الفضائية، ابتسم ومد يده للسلام بترحاب محسوب ودعاه إلى الجلوس قبالته. تخفف الرجل من غطاء الرأس والشال، وألقى بهما على مقعد أمامه، فباغته الطبيب: هل أنت مُسَلّح؟ أجاب بذعر: بالطبع لا. فقال الطبيب: إذن لماذا التخفي؟! فشرح ما حدث ويحدث بالتفصيل، فقال الطبيب وقد بدا أقل هلعاً: هل لديك ميول فاشية؟ أجاب: لا. هل يروق لك النظر إلى الدماء؟ لا. هل تجيد تفخيخ السيارات؟ لا. هل لديك أقارب متطرفون؟ لا. فقال الطبيب بنفاد صبر: إذن لماذا تترك لحيتك هكذا؟ رد الرجل باستغراب: ما علاقة لحيتي بكل هذا الذي يحدث. فقال الطبيب بما يشبه اليقين: لحيتك غير مهذبة، تنبئ من يراك أنك فاشي، وتحب مشاهدة الدماء، وتجيد تفخيخ السيارات، وقد يكون من بين أقاربك متطرفون. أصيب الرجل بالوجوم واصفرَّ وجهه، وسأل، بعد أن ازدرد ريقه مرات: وما الحل يا دكتور؟ اكتسى وجه الطبيب بالجدية، وقال: تواظب على إزالتها كل يوم «على الناشف»، لمدة عام على الأقل، حتى يتأكد الجميع أن جروح وجهك وتقرحاته دليل تطهرك من ماضيك الإرهابي. فزع الرجل، وقال: ليس لدي أي ماضٍ إرهابي، ولست مضطراً إلى نفي تصورات متخيلة وغير حقيقية لدى الآخرين، كما أننى لا أعتقد السوء فيهم لمجرد بضع شعيرات ناتئة أسفل وجه أحدهم، كما أن هناك كُثراً ملتحون يا دكتور. فقال الطبيب بلا اكتراث وهو يعبث بأوراق أمامه بما يعني انتهاء وقت الكشف: هؤلاء مسالمون. تأهب للانصراف، وأحكم التخفي مرة أخرى، وقبل أن يُغادر قال للطبيب بهدوء بعد أن تخيل أن إحدى عينيه «اليمنى» تحوي سمكة ميتة ومتعفنة منذ آلاف السنين: أود الآن قتلك أنت وكل من يعتقد بي ذلك، ولن أفعل، أتعرف لماذا؟ لأني مُسَالِم أيضاً يا دكتور. في طريقه إلى بيته، اشترى فرشاة وألواناً حمراء، وقبل دخوله إلى شقته كتب على الباب من الخارج: أنا رجل مسالم، أرجوكم لا تزعجوني.