قد تكون المصادفة، لا الربط السببي، ما أتاح التزامن بين حصول التفجيرين الانتحاريين اللذين استهدفا السفارة الإيرانية في بيروت وانطلاق الجولة الثانية لمفاوضات جنيف حول البرنامج النووي الإيراني. يمكننا أن ننسب إلى المصادفة أيضاً تزامن التفجير مع اندلاع معركة القلمون بين قوات النظام والمعارضة في المنطقة السورية المتاخمة للحدود مع لبنان وتسببها بتدفق أعداد أخرى من النازحين السوريين إلى لبنان. فالربط الميكانيكي بين التفجير وبين مناسبات التفاوض أو التباحث لهو أمر لا يفسر الكثير وإن كان يريح المقاربة الكسولة والمتثائبة حتى وإن كانت محمومة وخطابية. فالمنطقة تعج يومياً بوقائع تتدرج من النزاعات الداخلية الكبيرة والصغيرة وترتقي إلى معالم حراك إقليمي غير معهود ومتقلب ونشاط دولي حثيث على كل الصعد ولا يخلو بدوره من التقلبات ولعبة عض الأصابع. يمكننا أن نستبعد كذلك أي ارتباط بين استهداف السفارة الإيرانية ومحيطها الحاضن في بيروت وبين زيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إلى إسرائيل ثم رام الله، حيث التقى هولاند بالرئيس محمود عباس وبدّل بعض الشيء لهجته العابقة ببلاغة عاطفية عن الصداقة الثابتة مع الدولة العبرية. والمقصود أن العلاقة بين فرنسا وإسرائيل تستند إلى تحديدات عاطفية وأخلاقية تفوق بكثير ديبلوماسية المصالح واعتبارات السياسة. والحق أن الزيارة هذه لم تكن متوازنة على الإطلاق على رغم كلام هولاند عن ضرورة تجميد الاستيطان ووقفه كلياً لأنه يعيق المفاوضات. فهو امتنع عن وصف هذا الاستيطان باللا شرعي فيما لم يتردد الحليف الاستراتيجي الأكبر، أي الأميركي جون كيري، في نعت الاستيطان وارتفاع بورصته مؤخراً بأنه غير شرعي. لا مبالغة في القول إن هدف الزيارة يتلخص في الإفصاح عن تطابق في وجهات النظر بين الرئيس الفرنسي الاشتراكي وبين القيادة الإسرائيلية اليمينية في ما يخص التشدد حيال الملف النووي الإيراني وما يعنيه في مجال السيادة والاستقلال بالطاقة النووية. وفي هذا المعنى سيكون من الصعب عدم الالتفات إلى وجوه الشبه بين التشدد الفرنسي شبه الحربي حيال النووي الإيراني وبين العدوان الثلاثي على مصر الناصرية والذي قاده أسلاف هولاند بسبب تأميم قناة السويس من دون أن نقلل من موقع المسألة الجزائرية في النزاع الدائر آنذاك. لا مبالغة إذن في القول إن الزيارة تستأنف نهجاً شهد بعض التقطع في عهد الاشتراكي فرنسوا ميتران ويصح وصفه باليسارية الكولونيالية. ومعلوم أيضاً أن الرئيس اليميني السابق نيكولا ساركوزي كان قد قوّض الكثير من الإرث الديغولي الذي حافظ عليه جزئياً جاك شيراك. ثمة بالطبع، في فرنسا، «خبراء» في العلاقات الدولية وهم من النوع الذي تقوده «الخبرة» وحدها إلى التعاطف مع سياسات الدولة العبرية، يجدون أنه من الطبيعي أن تسعى فرنسا إلى ملء الفراغ الذي تتركه السياسة الأميركية الموصوفة بالتبدل والتردد في ما يخص التفاوض مع إيران والمسألة السورية في آن واحد. لا حاجة للعثور على روابط سببية بين تفجيري بيروت الأخيرين وبين مسارات تفاوضية معقدة على الصعيدين السوري والنووي الإيراني. فالاصطفافات الداخلية والإقليمية بلغت في حالات معينة حدة غير مسبوقة مما يولد مناخات مؤاتية لنشاط الجماعات الجهادية التي تعمل وفق أجندات شمشونية لا مجال للتفاوض فيها، بل حتى لا مجال للسياسة بوصفها فن الممكن وفن إدارة الانقسام والاختلاف. ومن المعلوم جداً أن إيران تدعم النظام السوري، وأن حزب الله يشارك في المعارك في سورية إلى جانب قوات النظام وإن كانت التقديرات حول حجم هذه المشاركة وطبيعتها متفاوتة جداً. ومن المعلوم أيضاً أن التوصل إلى تسوية مقبولة حول الملف النووي الإيراني، وهو أمر تزايدت حظوظه في الأسابيع الأخيرة، لا يثير غضب القيادة الإسرائيلية وحدها وإصرارها على تفكيك البرنامج النووي الإيراني برمته، بل لا يرضي أيضاً أطرافاً أخرى، عربية وغير عربية. فقد سبق أن نجح الفرنسيون في إفشال صيغة مقبولة كانت على وشك تتويج الجولة الأولى من المفاوضات قبل أسبوعين. وتأتي الشروط التي وضعها الرئيس الفرنسي، وهي لا تخلو من الطابع التعجيزي، لتهدد الجولة الثانية إلا إذا حصل تفاهم قوي بين الروس والأميركيين ومعهما قوى أخرى في الوفد السداسي المفاوض مع إيران، مما ينذر بتعريض الموقف الفرنسي إلى التراجع نحو مرتبة ثانوية في حل النزاعات الكبيرة ذات البعد الدولي. وللتذكير حصل شيء من هذا القبيل في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وإن كانت السياقات والظروف مختلفة جداً وتحولت هزيمة عبد الناصر العسكرية إلى نصر سياسي. يبقى أن الربط السببي بين تفجيري بيروت، الانتحاريين على ما يبدو، وبين تورط إيران وحزب الله في النزاع السوري، لا يفيد هو الآخر في تفسير تعاظم الحالة الجهادية والسلفية القتالية والتكفيرية وتمددها إلى لبنان. مثل هذا التفسير يصلح كقيمة مضافة لخطاب سجالي لا يعرف له طرف ولا زوايا. فكيف نفسر انتشار الظاهرة الجهادية التكفيرية وتمددها عملياً إلى كل البلدان العربية والإسلامية وإن كانت تعبيراتها العنيفة متفاوتة. وليس مقتل الجنود المصريين العشرة في سيناء قبل بضعة أيام سوى مؤشر إلى ما نقول. يسعنا بالطبع أن نقدم عشرات الشواهد والأمثلة المأخوذة من بلدان مختلفة. قد يكون صحيحاً أن سياسات النخب الحاكمة في غير بلد واعتمادها على المحسوبية والعصبيات الضيقة القرابية والطائفية والفساد قادا إلى تهميش قطاعات واسعة راحت تستنهض في شبكاتها الأهلية ثقافة فتوة موروثة من عوالم الحرفيين والشطار. وتحتاج هذه الفتوة إلى شرعية تسوغ عنفها الثأري فتتوسل بالصياغات العقائدية المبسطة والتنميط الديني للسلوك تحصيل هذه الشرعية. وكان من الممكن لمثل هذه التعبيرات أن تبقى محدودة الأثر لولا أن شروط توالدها وتعاظمها إلى حد الاستيلاء على مساحات واسعة من الفضاء الأهلي والاجتماعي باتت متوافرة ومرشحة لأن تتغذى من نفسها ومن دورة العنف التي تولدها. في مقدم هذه الشروط تصدع الأبنية الوطنية ومؤس`ساتها وترسخ الشعور بالعجز والمهانة واستسهال التلاعب بالسيادات الوطنية والإذعان اليائس لسياسات دولية تغلّب منطق الغلبة العارية. لذا نرجح أن يكون تفجير بيروت تفجيراً آخر وليس أخيراً.