أسعد نزار يحيى زائري معرضه المقام حالياً في غاليري كريم في العاصمة الأردنية عمان بزهوره المستعارة من الواقع المتخيل. اختصر الرسام العراقي المقيم في الولاياتالمتحدة عذابات منفاه في لون حي ومترفع سيكون له القدرة على تغيير مزاج مشاهديه في كل لحظة نظر مفعمة بالتساؤل. لم يراهن الرسام على موضوعه المحير، بقدر ما راهن على الإيحاء الذي تتركه الصبغة الوردية وهي تغطي كل الوقائع بخيالها البريء. هذا عالم يمكن الدخول إليه بيسر، إنه يجذبنا بلذائذه البصرية وممكناته الإيحائية، يثني على رغبتنا السرية في الولوج إلى حدائق الغيب المسكونة بالملائكة، يهبنا فاكهته ليسلينا قبل أن يذكرنا بأقنعته، وهو ما يجعل الخروج منه أمراً صعباً، أمراً نتواطأ على أن نجعله مستحيلاً. كل من رأى لوحات يحيى كان عليه أن يذهب إلى بيته مضمخاً بالعطر. غير أنه العطر الذي لا يتخلى عن غموضه. وهو غموض لا يرهق بسبب خفته. نزار يحيى (بغداد 1963) يعرض في هذا المعرض عدداً كبيراً من اللوحات متفاوتة الحجوم، غير أنه لا يعول على لوحة بعينها. كل لوحة هي جزء من مشروع بصري كامل. سلسلة من الخطوات المطمئنة، يلقيها المرء لكي يصل إلى مراده، وهو مراد اشراقي تبدو الصورة فيه مجرد وسيلة. «أنت تنظر لكي تحيا» هناك ما ينتظرك لكي تتأنق بحياتك الجمالية المقبلة، حين تمتلئ حواسك بما ينعشها من الأصوات والمشاهد والروائح. لا أبالغ إذا ما قلت أن (ماء الورد) وهو عنوان المعرض قد سال على أجزاء كثيرة من جسدي ليعيدني إلى فطرتي المتأنية. هذا رسام حسي بقدر ما هو روحاني. تذكرت حينها الرسام الأميركي سي تومبلي (توفي عام 2011) الذي عرض زهوره عام 2007 في برلين ثم طافت تلك الزهور حول العالم. قد لا أكون محقاً في تلك الذكرى. فنزار يحيى لا يمشي وراء تومبلي مقلداً. لديه طاقة تعبير مختلفة عن تلك التي كان تومبلي قد سعى إلى أن يضعها في متناول أرواحنا. نزار لا يسعى إلى تهذيب أبصارنا في النظر إلى الزهرة كما كان تومبلي يحلم. إنه يحلم في تثقيفنا بالعطر الذي ينبعث من كل لحظة نظر. إنه يرينا حساسية ممكنة، تقيم في أعماقنا. يخيل إلي أن يحيى كان يتمنى لو أنه اكتفى برسم الزهور، وهو ما فعله بجرأة في غير لوحة، غير أن المشاركة الإنسانية كانت تلح عليه، فكان جزء من الجسد البشري يظهر بين حين وآخر ليذكرنا بأن الفكرة تتخطى الاستعراض البصري لما هو مدهش في حياة الطبيعة إلى حياة مشتركة سيجعل منها الرسام مجرى لماء الورد. بعد لحظات من النظر المريب سنضع حذر الرسام جانباً لنمضي في رحلة ممتعة، سيكون علينا أن نتخطى فيها حدود ما نراه لنسقط في فخ ما نشمه. أنوثة الجميل تحضر كما لو أنها تؤكد استعداد الرسم للتخلي عن ثوابته من أجل أن يكون العالم جميلاً. فحين يمزج الرسام الجسد البشري بعطر مستلهم من مرور زهرة عابرة تكون الحياة محتملة كما لو أنها قد اخترعت لتوها. يرسم يحيى كائناته في لحظة انتقال بين عالمين، تمتزج الحواس فيهما بما ينقي حمولتها من كل شعور بالخطيئة. «لقد أهملنا حياة مشتركة» تقول اللوحة ما لم تقله الزهرة العاكفة على جمالها. وكما أرى فقد كان الرسام يسعى إلى أن يدافع عن منحاه المفاهيمي. وهو منحى يمزج الدفاع عن ضرورة الرسم بما يجعل الرسم قادراً على أن يقول حقائق لا تزال كامنة في أعماقنا. هناك حالة شعرية يمكنها أن تكتفي بالوردي من غير أن تضطر إلى استحضار شكل الوردة. سيكون علينا أن نستجيب إلى هذيان أخوي رفيع المستوى، يؤاخي بين ما نشعر به وما نتذكره. يقترح الرسام علينا شكلاً لحياة مثالية. حياة لم يعشها أحد من قبل. لقد رأيت ذات مرة امرأة تبكي أمام لوحة لتومبلي، لم تكن فيها الزهرة تبوح بكامل عطرها فصرت أفكر في ما يمكن أن تفعله تلك المرأة حين تقف أمام لوحة من نزار يحيى، وقد استسلمت الزهرة لعطرها، كما لو أن ذلك العطر كان مأواها الأخير. رسوم يحيى تحملنا إلى غد آمن، عنوانه العطر.