عشرون عاماً مرت على رحيل الفنان بول غيراغوسيان (1925- 1993)، ولم يخفت وهجه ولم ينقطع ذكره بل ظل خافقاً في قلوب كل من عرفه وأحبه وعشق فنه. وبيروت التي اشتاقت إليه تحتفي بذكراه من خلال المعرض الذي يقام في مركز بيروت للمعارض (سوليدير- البيال) ويستمر حتى 6 كانون الثاني (يناير) 2014، تحت عنوان «الحالة الإنسانية»، وهو من تنظيم الفنانة مانويلا الابنة الصغرى للفنان، بالتعاون مع سام بردويل وتيل فيلراث، المديرين المتخصصين في تنظيم المعارض، وهما اعتمدا رؤية غير كرونولوجية -تسلسلية زمنية في سياق عرض اللوحات، بل هي وزّعت بناء على الموضوعات الأساسية التي تركزت حولها أسئلة بول حول الذات والعائلة والنساء والأمومة والعمّال وحياة الشارع والإيمان واليأس والمنفى والانتماء والألم والروحانيات، وهي تيمات تكررت في عناوينه وقادت الانفعالات في بحث الفنان عن التعقيدات غير المتناهية للحالة الإنسانية. أكثر من مئة لوحة زيتية وأعمال ورقية لم تعرض من قبل، وهي من الوفرة والغزارة لفرط ما عمّقت معرفة الفنان بالموضوع الإنساني، جلّها من نوع البورتريه بالأقلام الفحمية التي تعود إلى مراحل تمتد من أواخر الأربعينات إلى الثمانيات من القرن العشرين، من بينها صور ذاتية للفنان من الفتوة والشباب إلى الكهولة فضلاً عن صور عائلته وأصدقائه وأقربائه، تدل على مقدرة عالية في التقاط الملامح والخصائص الإنسانية بعفوية مدهشة، وهي سمة من السمات التي تميز بها غيراغوسيان كرسام بورتريه غير تقليدي، في سرعته الفورية وبداهته في استنباط الأعماق العاطفية، باللمحة الخاطفة والتدفق الشعوري وقوة الانغماس. يكفي المقارنة بين أول لوحة زيتية رسمها لوجهه عام 1948، بالقميص الأبيض مقبلاً على الحياة بصدرٍ مفتوح، برعونة المتمرد، ولكن بتأنٍ وحذر في وضع اللمسات اللونية الصغيرة المتعاقبة بزهو على خلفية قاتمة، وبين القوة في التلطيخ الحرّ بالألوان السميكة الناتئة بحرارتها وجحيمها التي أهالها بول على وجهه في آخر لوحة له ظلت غير ناجزة تعود لعام 1993، ما زالت تحمل أصابع يديه وتلك النظرة الآسرة التي ودّع بها العالم من وراء غبش نظارتيه السميكتين اللتين استنفدهما الألم. وبين البداية والنهاية تتجلى «أنا» الفنان بقوة على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن، تبوّأ خلالها مركز الصدارة بين فناني الحداثة التشكيلية في بيروت، فكان محوراً وركيزة من ركائزها. بدأت المراحل الأولى من حياته في أواخر الأربعينات، بالتعرّف إلى الأشكال الإنسانية واكتشاف مظاهر الحركة بتنوّعها، من خلال الرؤية المباشرة والدراسات السريعة ومطاردة الأحداث التي تجري أمام عينيه. فجاء فنه مرآة صادقة للواقع، حيث انعكست القامات بأحجامها وثقلها وكذلك هيئات الوجوه الغائمة التي غابت عنها الملامح، وهي تتمثل في مناخ من التعبير العميق عن الفقر والكآبة والعزلة والتعب. فهو حين فتش عن الحقائق الكبرى وجدها في الشارع، الذي أخذ منه موضوعاته الحيّة على طبيعتها. فكان يحمل أوراقه وأقلامه ليطارد بها الملامح الشاردة في وجوه النساء والرجال والأطفال والعجائز، ولا سيما الحمّالين في انكبابهم على تحصيل قوت يومهم بملابسهم الرثة ومعاناتهم اليومية وهم حفاة بأرجلهم الغليظة والضخامة المستبدة من التعب. فمن أحشاء مجتمع برج حمّود في ضاحية بيروت، حيث كان يقطن الفنان في حزام البؤس والتشرد، كانت الموضوعات تتدفق في جريانها اليومي بين سكان الأحياء الشعبية بجدرانها ذات الألوان الرمادية والترابية المحاطة بالسواد، تلك الألوان الوحيدة التي طبعت باليت الفنان إلى حين ظهور الجماعات الإنسانية في وقفة تذكارية، بقامات مشرئبة على النسق القوطيّ. كان بول يتعقّب تلك الجماعات، يلتحق بها حيثما وجدت، فتقوده الخطى إلى الحفلات ومجالس الأفراح وأعياد اللون وأثواب الزفاف، ومراراً إلى بخور الكنائس وألم الفراق في موكب جنازة يفضي إلى المقبرة. لم يكن هذا المسير للجماعات لينفصل في ذاكرته، عن النزوح الكبير للأرمن من القدس إلى بيروت عام 1948. مسير طويل من المشي على القدمين إلى القدر المجهول، لعله القدر نفسه الذي ضلت في سرابه ساق بول بين الأرجل التي ثبتها على خط الأرض. وبول غيراغوسيان اللبناني المنشأ والهوى، هو أرمني مقدسي، عاش طفولته وحداثته بين شوارع القدس وأديرتها وأحيائها، حيث تختلط أصوات الأذان مع الأجراس والتراتيل. لذا احتلت الأيقونة المسيحية المقدسية مكانة مركزية في نتاجه، فيقول عنه الفنان والمقدسي الآخر كمال بلاطة: «من خلال عناصر الأيقونة المسيحية أخذ غيراغوسيان في تأسيس النواة الأولى للصورة الانطباعية للتراث، وبات العالم الأيقوني الذي توسطه جسد الإنسان، بمثابة المفتاح الذي أدخلنا غيراغوسيان بواسطته عتبات الزمن الفلسطيني». أما غيراغوسيان نفسه فيقول عن حياته الفنية في القدسوبيروت معاً: «وعرفت أن العالم يعيش أيضاً في دير كبير، والإنسان في أي مكان، داخل الدير أو خارجه، يفتش دائماً عن طريق». بين الانفعال والتعبير تأثر غيراغوسيان بالانطباعيين في تحقيق بعض المناظر باللمسات اللونية (جنازة تحت المطر- 1948)، لكنه أعجب بفان كوخ في سلوكه التلويني بمؤداه العاطفي المطبوع بالتلقائية والحدة والكثافة. فقد وجد بول أن ما يجمعه بفان كوخ هو الألم الوجودي الحاد. لذا نستطيع أن نتبيّن سلوكه التلويني بمؤداه التعبيري في ضربات ريشته المتقاطعة الاتجاهات، وهي تسعى لتحقيق الشكل، بالفرشاة والسكين (في تسوية السطح). ويتراءى لاحقاً في نتاج غيراغوسيان ميلاً تبسيطياً على علاقة وثيقة بأسلوب غوغان في التسطيح بالألوان الحية التناقضية، لا سيما في جدارية «الضحية- 1958»، التي تجسد مشهد النحيب والقنوط، في استعادة مجازية لذاكرة المجازر الأرمنية التي طبعت ذاكرته الإنسانية بالمآسي التي اختلطت في ما بعد بالدراما اللاهوتية. وربما تُعرض للمرة الأولى، جدارية مجزرة دير الزور (التي ارتكبها العثمانيون بحق الأرمن)، وهي تذكّر بطريقة توزيع شخصياتها وعناصرها، بالمشهدية المأسوية التي صورها أوجين دولاكروا في جداريته «مجزرة سيو» التي أعلنت ميلاد تيار الرومانسية في فرنسا. من بعدها توالت الأعمال الجدارية في نتاجه، كلوحة العشاء الأخير بطابعها الروحاني ومناخها الشرقي، كي تظهر في عام 1970 جداريته التي تمثل جنازة عبد الناصر، التي وصفت وقتئذٍ بجنازة العصر. الحياة اليومية بخلفية ماورائية كان بول غيراغوسيان ذو النزعة الروحانيّة والميتافيزيقية يبدع تحت وطأة الانفعال والحدث الذي يستعيده من الذاكرة لكأنه أمام عينيه. والانفعال هو محرك فطري وتلقائي في التعبير المستمد من تقلبات الحياة نفسها ما بين الولادة والموت، والحب والأسى والغفران. فقد رسم أجساد النسوة في تكوراتها وحركاتها المشدودة إلى المولود الجديد، بأسلوب محدث- إيحائيّ غير تشبيهي، ذي منطلقات واقعية على علاقة بمجريات حياته الشخصية، لكنها متصلة بتآليف عصر النهضة المتمثلة بموضوعات أثيرة كالعذراء الأم والطفل والعائلة المقدسة. فالعائلة هي احتفال بالحياة نفسها التي تعلق بها الفنان حتى آخر رمق، كما أن المرأة في فن بول هي الرجاء والأمومة والحبيبة ورحم الأرض، وشبح الوطن المستحيل، وهي حضن الطمأنينة وقلب الحبور المشع بالنور. ثمة رسوم ولوحات كثيرة لجولييت زوجة الفنان وأولاده وعائلته لا سيما أمه «راحيل» التي صوّر عبور الزمن على وجهها المجبول بالحزن وعينيها الضارعتين. كانت لوحات بول تنمو مع نمو عائلته وتكبر معهم وترافقهم، في تناسل وتوالد يجعل التجارب تجر بعضها بعضاً، لكأن هذا المجتمع الصغير هو نموذج لما يحيط به في مجتمعه الكبير. هكذا رسم العروس جالسة على كرسي وفي يدها باقة أزهار، كما رسم موكب العرس والحفلات التي يقوم بإحيائها العازفون، لم يكن بول إلا واحداً من هذا الجمع الغفير من الناس الذين توحدهم الأفراح والمآسي، التي لا يغيب عنها شبح والده الأعمى العازف على الكمان الذي قضى من دون أن ينتبه إليه أحد. إنها حياة كاملة عاشها بول بجوارحه، حتى أضحت مخزوناً نابضاً بالصور التي أخذت تتدفق من مقلتيه. يقول: «حين كنت طفلاً كان الناس من حولي يتكلمون عدة لغات. كنت أتساءل من أنا؟ وبأي لغة ينبغي أن أعبّر عن نفسي، بالأرمنية أم بالعربية أم بالفرنسية؟ أخيراً أدركت أن لغتي الأم هي الفن، وأنه عليّ أن أتكلم بها وليس بسواها». في أعماله ثمة انعتاق للمادة في تحولها إلى نور متعدد الأوجه، أحياناً كان يبلغه بالتقشف اللوني التام في التجريد (أوائل السبعينات)، وأحياناً باللطخات العريضة البارزة المرصّعة بحبيبات اللون وعجائنه وقماشاته الآتية من زخرف العيش (الثمانينات والتسعينات)، من دون أن تتغير مشهدية الجماعات التي تقف بالتوازي عند حافة الأرض، وقاماتها تبلغ عنان الفضاء، في سفر ارتقائي بلا أعماق، بين «بروفيل» الأرجل وأمامية الجذوع، بما يذكّر بفن التصوير الجداريّ في المعابد الفرعونية، لمشاهد نساء يعزفن على القيثارات أو يرقصن أو يحملن الأواني المقدسة. إنها التأثيرات الشرقية التي غمرت بيروت في عصرها الذهبي، وتوّجت بول غيراغوسيان نجماً من نجومها وأحد أقطابها، حين كان استلهام التراث الشرقي يعتبر من الاجتهادات والتجليات التي تقع في صميم الحداثة التشكيلية الغربية. غير أنه في مرحلة الحرب شهدت ريشة غيراغوسيان انقلابات نحو الانفعالات المشحونة بالألوان المتفجرة واللطخات العريضة وسحابات الرمادي والأسود، في تجريد تعبيري ذي سمات إنسانية، اتخذ بعد حادثة بتر رجله (عام 1974)، نبرة القوة والإصرار والشراسة المجبولة بالألم. كان بول صديق الشعراء والأدباء والمسرحيين خالطهم وجالسهم في المقاهي وقرأ دواوينهم وزينها برسومه، ولعل تحفة المعرض هي لوحة جدارية رسمها بول ضمن ثلاثية لم يبق منها بعد ويلات الحرب اللبنانية سوى واحدة (الوسطى)، كان قد أعدها لمسرحية أسامة العارف «إضراب الحرامية» التي عرضت في عام 1970 في فندق النورماندي. فقد عرفت بيروت مع الصداقة التي ربطت بين بول غيراغوسيان وجلال خوري ما عرفته باريس مع بيكاسو وجان كوكتو في التصاميم التي وضعها كل منهما، كمشاهد خلفية لفرقة دياغيليف الروسية، إلا انه لم يتبق من الجداريات التي أعدها غيراغوسيان لمسرحيات جلال خوري: «جحا في القرى الأمامية» و «الرفيق سجعان» و «أرتوري أووي» لبرتولد بريشت، سوى الصور الفوتوغرافية. استطاع بول غيراغوسيان في ملاحمه الإنسانية أن يصالح بين الواقع والتجريد، بين التراث والحداثة، وكذلك بين الماضي والحاضر، تاركاً شهوده واقفين بصمت على عتبات فواجع الأزمنة الراهنة.