ترجَّل من الميكروباص، ووقف دقيقة رغم تعجل من حوله وترقب من فوقه وتوجس من أمامه مصراً على أن يربط زر الجاكيت، ف «الرئيس الشرعي» لا يمشي والجاكيت مفتوحاً. ووقف في موقعه باذلاً كل ما يمكن أن يبذل من جهد ليبدو واثقاً راسخاً مبتسماً ابتسامة كتلك التي ترسمها الشخصيات العامة في الأماكن العامة من دون أن تعكس سبباً بعينه أو تكون مدعاة معينة للابتسام ف «الرئيس الشرعي» يبتسم «وخلاص». خلاص مصر الذي يحلم به «الإخوان» ويراود خيالات أتباع مشروع الخلافة ويتم حقنه في أدمغة القواعد الموكل إليها تحقيق الخلاص في مقابل الحصول على بطاقة الشهادة في حال الموت أثناء «الجهاد» أو إعانة الجماعة في حال البقاء على قيد الحياة أثناء «الكفاح» انطلق الشحن له والحشد من أجله والتجييش له منذ أول من أمس لكنه لم يثمر اختلافاً كبيراً أمس. الساعات التي تعيشها مصر بدءاً من أمس وحتى يوم 19 الجاري الموافق لذكرى أحداث محمد محمود الأولى والثانية (وربما الثالثة) ساعات فاصلة في خلاص مصر الذي يحتمل قائمة طويلة من أنواع الخلاص وفق فروق الأدلجة والمنهج والاستقطاب. فبين حالم بخلاص مصر من جماعة فضلت مشروعها على الوطن، إلى مجاهد من أجل خلاص مصر من موبقات المدنية والحداثة، إلى متمن لخلاصها من جيشها وشرطتها وشعبها الذين أطاحوا الحكم الديني، إلى متأمل لخلاصها من غياهب الخلافات ومغبات الصراعات، إلى متوقع لخلاصها من الهيمنة الأميركية، إلى متفائل بخلاصها بأي حال من الأحوال وليحكم من يحكم شرط تصحيح الأوضاع. أوضاع عدة للخلاص تطرق أبواب مصر في تلك الساعات التي أعقبت رفع حال الطوارئ وانتهاء حظر التجول والترحيب بعد طول غياب بالدب الروسي بدل العم سام وتوجيه كلمة، أو بالأحرى خطبة، إلى «الشعب» من «الرئيس الشرعي» هي بمثابة تحفيز، وفي أقوال أخرى تحريض، لاستكمال مشوار البحث عن الشرعية. وكما أن هناك أوضاعاً عدة للخلاص، هناك كذلك وجهات شتى للمشوار المرتقب. فالجماعة التي تعمل على قدم وساق لإكمال محاولات إسقاط انقلاب الإرادة الشعبية عليها وعلى مرشدها وكوادرها ورئيسها المعزول محمد مرسي أجرت أمس تمرينات إحماء لمباراة العودة بعد انتهاء أشهر الطوارئ الثلاثة، وهي التمرينات التي انعقدت في مناسبة شهرية يحتفي بها أنصار الشرعية ألا وهي فض اعتصامَي النهضة ورابعة. وبما إن بيان مرسي الموجه إلى أهله وعشيرته عبر المحامي محمد الدماطي جاء ليدق على أوتار الأهل الحساسة ويدغدغ مشاعر العشيرة الرهافة فقد ضخ فيهم دماء إكمال مسيراتهم الليلية وتنظيم تظاهراتهم الصباحية مزوداً إياهم بخريطة الطريق الإخوانية حيث «الدماء ترسم طريق العزة للوطن» وذلك بعد ما باغتهم بمعلومة هزت أرجاء أنصاره وأدهشت دهاليز حلفائه وزلزلت كواليس إخوانه. فقد فجر الدكتور مرسي معلومة خطيرة استهل بها بيانه، ألا وهي أن «ما حدث هو انقلاب عسكري مستوف لأركانه ومعالمه كافة». وبالطبع، ومن أجل اكتمال التحفيز ليكون مستوفياً لأركانه ومعالمه كافة، لم يفت على مرسي إضافة محسنات النكهة ومشهيات الوجبة المعتادة، إذ أضاف إن ما حدث في 30 حزيران (يونيو) الماضي «خيانة لله ورسوله». وكما هو متوقع عزفت أوركسترا «كسر الانقلاب» السيمفوني مقطوعة الجهاد وغنت أنشودة الكفاح وتستعد لخوض غزوة جديدة من غزوات «سيسي يا سيسي مرسي رئيسي» ولكن في ثوبها الجديد بعد رفع الطوارئ وانتهاء الحظر. إلا أن الحظر الشعبي الآخذ في التصاعد تجاه جهود أنصار الشرعية لإعادة مرسي إلى القصر عبر مسار إشاعة الفوضى وبث الفرقة وتعطيل الحياة أخذ وضع الاستنفار هو الآخر مع انتهاء الحظر الرسمي. وإذا كان شحن أنصار الجماعة وحلفائها يجري على قدم وساق عبر أحاديث «أنا الرئيس الشرعي» وأقاويل «الانقلاب بدأ في الانهيار» والشتائم والسباب الممنهج ضد الجيش والشرطة والشعب، فإن المصريين يقفون على الطرف الآخر في حال ترقب مشوب بالتأهب. فعمليات قنص الدولة ستجري على قدم وساق، وجهود الاستحواذ على الكرسي ستبذل بلا هوادة، ومناورات مغازلة الخارج ستستمر من دون انتقاص، والأيام المقبلة تنبئ بانتقال رقصة الموت «الإخوانية» في مقابل صحوة الدولة المدنية على مسرح المؤسسة العسكرية إلى مرحلة جديدة تستثمر فيها جهود «الشرعية» في غياب الطوارئ، وتنتعش خلالها أحلام المدنية البهية في حضرة الليبرالية، وتمضي المؤسسة العسكرية قدماً في خريطة طريق بدأت مسارها بمجاهرات وطنية: «أيوه أنا باهتف ضد المرشد» واستقوت بإعلان شعبي صريح: «حكم المرشد بح خلاص» ومضت قدماً على أنغام ديبلوماسية شعبية معضدة بغضبة شعبية: «يا أوباما قول لمرسي الشرعية تحت الكرسي»، لكنها تواجه بجهود استنساخية حيث: «أيوه أنا باهتف ضد العسكر» مستقوية ببيان أول رئيس مدني منتخب: «أنا الرئيس الشرعي» ومعضدة بغضبة عابرة للحدود برياح إقليمية حيث أصابع تركية ومؤثرات قطرية وتذبذبات أميركية وتوابع أوروبية وتنظيم دولي حلم بالخلاص من عقود من العمل السري عبر تجليس مرسي على الكرسي. الطريف واللافت أن جهود الخلاص على كل الأصعدة لم تعد تلقي بالاً أو تعير اهتماماً أو تدق أوتاراً خاصة بالثورة وموجاتها والربيع ورياحه والتغيير وأحلامه. فالأولوية الآن هي رغبة كلّ في الخلاص من الآخر.