حين عين هوشيار زيباري وزيراً للخارجية، قبل عقد، بدا كأنه كلف مهمة مستحيلة على خط الزلازل. كان بلده العراق محتلاً بلا سيادة أو قرار أو جيش. وكان الانقسام الشديد عنوان المرحلة دولياً وإقليمياً وعراقياً. ولم تستسغ بعض الجهات أن تسند إلى كردي مهمة قيادة الديبلوماسية في دولة عربية مهمة. خافت دول من أن تطول إقامة الجيش الأميركي في العراق. وخافت دول أخرى من احتمال نجاح محاولة زرع الديموقراطية فيه. وكان على زيباري أن يبادر ويشرح ويطمئن وأن يصطدم أحياناً بمن يصرون على استبعاد العراق بحجة أنه محتل. ولأن زيباري تحول لاعباً بارزاً على المسرح الإقليمي ولأن العقد الصاخب بدأ من العراق تنشر «الحياة» حوارها مع وزير الخارجية العراقي على حلقات وهنا نص الحلقة الأولى: من مقاعد المعارضة انتقلت إلى وزارة الخارجية؟ - عُيِّنت وزيراً لخارجية العراق للمرة الأولى في أيلول (سبتمبر) 2003 في حكومة مجلس الحكم الذي كان آنذاك سلطة الائتلاف الموقتة برئاسة بول بريمر. وكان مجلس الحكم مسؤولاً عن تلك الحكومة التي استمرت إلى حزيران (يونيو) 2004 موعد تسليم السيادة إلى العراقيين أي إلى حكومة أياد علاوي من خلال عملية أممية أشرف عليها الأخضر الإبراهيمي. ثم عملت ضمن حكومة الرئيس إبراهيم الجعفري والحكومة الأولى للرئيس نوري المالكي وحكومته الثانية الحالية. ويُقال أنني أصبحت الآن وزير الخارجية الذي خدم لأطول مدة في تاريخ العراق. ما أصعب مهمة واجهتك في وزارة الخارجية؟ - واجهت عدة تحديات وصعوبات. الصعوبة الأولى كانت كوني كردياً يقود وزارة خارجية سيادية تهتم بكل العراق وليس بجزء منه وليس فقط بالقضايا الكردية. والصعوبة الثانية كانت كيفية تمثيل بلدك وهو تحت الاحتلال، فكيف يمكن أن تمثل بلداً وتدعي السيادة والاستقلال والحرية وأنت محكوم ولديك 170 ألف جندي أميركي ومن قوات التحالف. الصعوبة الثالثة كانت أنه عند سقوط صدّام حسين كان العراق دولة خَرِبة بكل ما للكلمة من معنى، في بنيته التحتية وفي علاقاته الديبلوماسية والسياسية والتجارية. كان بلداً معزولاً محاصراً مكروهاً منبوذاً حول العالم. وكان عدد سفارات العراق حينها أقل من 40 سفارة وكانت العلاقات مقطوعة مع الكثير من الدول العربية والأجنبية. وكان البلد محكوماً بعدد هائل من أحكام الفصل السابع، في ما يتعلق بالتكنولوجيا والمعرفة والمختبرات والأموال، وكنا لا نملك حرية التصرف بأموال البلد والنفط وفي التعامل مع الآخرين. تسلمنا في الحقيقة جملة من التحديات الهائلة، هذا عدا الوضع الداخلي لوزارة الخارجية. في عهد صدام كانت وزارة الخارجية أحد مراتع الأجهزة الأمنية والمخابرات. كانت وزارة مقفلة باعتبارها وزارة أمن وطني لذلك كان جميع موظفيها إما عناصر في المخابرات أو عناصر في حزب البعث وإما من أقرباء كبار المسؤولين في الدولة. لذلك تغيير هيكلية هذه الوزارة من خلال المحافظة على نظام العمل والإبقاء على مَنْ نحتاج، مع تبديل الموظفين تدريجياً، كان أبرز مهمة داخلية. وكنت أقول دائماً إن المصالحة الوطنية في العراق بدأت في وزارة الخارجية. أقصينا عدداً من الموظفين الذين كانوا معروفين جداً ك «وجوه قبيحة» من المخابرات وقاموا باعتداءات ضد العراقيين لكن حافظنا على الجسد الأساسي للديبلوماسية العراقية ومشينا خطوة خطوة. وزارة الخارجية وزارة سيادية تهتم بسيادة العراق ومصالحه وتمثيله لذلك كان عليّ أن «أخفف» من هويتي العِرقية وأن تطغى عليّ الهوية العراقية فلا أكون منحازاً أو مؤيداً لحقوق الأكراد في المسائل الخلافية فأحد القضايا الأساسية في المشكلة الكردية هي مسألة السيادة، ووزارة الخارجية عليها أن توازن بين هذه المسائل، وتحدد ما هي حقوق الأكراد. هذه كانت مهمة شاقة. هل تقبَّلكَ وزراء الخارجية العرب بسهولة؟ - أول مهمة لي بعد توزيري في أيلول (سبتمبر) 2003 كانت حضور اجتماع مجلس جامعة الدول العربية في القاهرة بعد يومين أو ثلاثة من تعييني. وتساءلت حينها هل من حق العراق الحضور واسترداد موقعه في الجامعة أم نُبقي مقعد العراق خالياً إلى حين تشكيل حكومة في ظروف أخرى؟ فالبعض في مجلس الجامعة كان يعتبر مجلس الحكم، وما حصل في العراق، غير شرعي، وكانت هناك دعوات قوية لحرمان العراق من مقعده. قبل أن أغادر العراق سُئلت: هل ستذهب إلى الجامعة؟ أجبت: بالتأكيد، هذه أول مهمة لي وعلينا أن نحافظ على مقعدنا، كبلد مؤسس لجامعة الدول العربية علينا الحضور والمشاركة، وأن نقاتل في سبيله. أذكر أن عدداً من السياسيين العراقيين الأصدقاء نبهوني أن المهمة صعبة وقد أحرَج فقلت هذا واجب ويجب أن يعود العراق إلى موقعه. عقدت مؤتمراً صحافياً في بغداد أعلنت فيه أن العراق سيحضر اجتماع الجامعة ولن يتنازل عن مقعده بأي شكل من الأشكال. واستقللت الطائرة إلى القاهرة ونزلنا في فندق سميراميس حيث عقدتُ مؤتمراً صحافياً أعلنت فيه وصولي إلى القاهرة للمشاركة في الاجتماع. ليلة وصولنا عُقدت لقاءات مطولة بين وزراء الخارجية العرب تداولوا خلالها هل يسمحون للعراق بالعودة إلى الجامعة أو تُعلَّق عضويته إلى حين اتضاح الأمور؟ لكن الرأي السائد والذي للأمانة تبنته قطر والمغرب والكويت الذين أيدوا مشاركة العراق وقالوا إننا سنرتكب خطأ في حرمان العراق من عودته إلى موقعه. ماذا كان موقف سورية؟ - الحقيقة لا أعرف ولكن عرفت أسماء الدول التي أيدت عودة العراق في تلك الليلة الصاخبة التي استمرت فيها الجلسات إلى بعد منتصف الليل. وخابرني ليلاً كولن باول وزير الخارجية الأميركي وسألني إن كنت التقيت أحداً من المصريين من الجامعة العربية. فأبلغته أنني وصلت للتو وسأتوجه صباحاً إلى مقر جامعة الدول العربية للقاء الأمين العام للجامعة عمرو موسى وسأحاول لقاء وزير الخارجية المصري أحمد ماهر، رحمه الله. قال إن مهمتي ليست سهلة إطلاقاً وأن الأميركيين يحاولون من جهتهم دعمنا عن طريق حلفائهم وأصدقائهم، وتمنى لي حظاً طيباً. في صباح اليوم التالي كان من المفترض أن أتوجه إلى وزير خارجية مصر ليقوم بمرافقتي إلى مقر جامعة الدول العربية. توجهت إلى الوزير ماهر وشرحت له أن وضعنا تغيَّر وأننا لسنا غرباء والعراق موقعه مضمون ومكانته، وأن العراق كان معزولاً في السابق فكان طاقة معطَّلة وأننا سنحاول أن نعيد تفعيل دور العراق. فقال لي إن علينا أن نتوجه إلى عمرو موسى في مقر الجامعة فأعربت عن استعدادي لذلك. عمرو موسى كان معه بيان من البيانات القديمة الغنية بالشعارات والمصطلحات. فقلت له إن هذا ليس مقبولاً الآن فالعراق بلد تعددي وليس جميع مواطنيه من العرب ونحن مقبلون على مرحلة جديدة مبنية على الديموقراطية والتعددية وتداول السلطة، وعليكم أن تحترموا تعددية الشعب العراقي وطلبت أن يُذكر ذلك في بيان الجامعة. ثم برزت مشكلة كيفية دعوتي إلى حضور الجلسة. فقمت ببادرة وتوجهت فوراً إلى لقاء وزير خارجية الكويت الشيخ الدكتور محمد الصباح في فندق النيل هيلتون وهو الفندق الملاصق لمبنى الجامعة. رحب بي وكان سعيداً لحضوري وأبلغني بالجدل والنقاش الذي دار (في الاجتماع الذي عقد الليلة السابقة) والمواقف المتشددة وكيف أن موقف الكويت كان داعماً بقوة للتغير الذي حصل. وهو كان يرغب أن نذهب سوياً إلى الجامعة العربية فيكون وصولنا معاً رسالة. وأمسك بيدي وتوجهنا إلى الجامعة وكانت الصورة التي لقيت صدى عالمياً. عند وصولنا أبلغونا أن وزراء الخارجية العرب سيجتمعون أولاً ثم يطلبون مني الدخول إلى قاعة الاجتماع. فذلك الاجتماع لجامعة الدول العربية كان من المفترض أن يُدرس فيه تعليق عضوية العراق، كون هذا الكيان غير شرعي. جلست في قاعة الانتظار إلى أن حضر موظف من مراسم الجامعة ونادوا عليّ ودخلت القاعة وأخذت مقعدي ممثلاً للعراق. رحب بي عمرو موسى على رغم أن معظم الحضور نظر نحوي نظرات الاستغراب، ربما بسبب كوني كردياً بين العرب. وكان ذلك قبل أن يصبح رئيس العراق كردياً. عمرو موسى ألقى خطابه ثم جاء دوري فألقيت كلمة حول توقعاتنا للعراق والتغييرات ودور العراق في القضايا العربية وأين سيكون العراق مستقبلاً، وتحدثت عن قضية فلسطين وعن عدوان صدام على الكويت وعن إيران وعن الخلل الذي حصل. كانت كلمتي متوازنة وربما لم يتوقعوا مثلها أبداً. بعد أن أنهيت كلمتي صفق الجميع وجاء إليّ جميع وزراء الخارجية لمصافحتي وبينهم الأمير سعود الفيصل والوزير فاروق الشرع. لهجة الوزير الكردي لاحقاً أبلغني بعض وزراء الخارجية العرب أنه في جلسة الليلة التي سبقت الاجتماع قيل مَنْ هو وزير الخارجية العراقي الكردي هذا؟ فقال الوزير ماهر، رحمه الله: قد يكون من المضحك أن نستمع إلى لهجته الغريبة. وبعد أن ألقيت كلمتي بلغة عربية سليمة علق الوزير ماهر قائلاً: «الله ده بيعرف عربي أحسن مننا». والشيء بالشيء يُذكر، بعد حوالى سنتين تم تعيين وزير خارجية للسودان غير عربي وهو مسيحي من الجنوب اسمه لام أكول وعُقد مؤتمر القمة في الخرطوم وكنت موجوداً. وكان الوزير السوداني المضيف حريصاً على تنقيح كلمته لغوياً وأشاد به عمرو موسى وقال إنه أعجب بمهارته اللغوية. فقلت لعمرو موسى ممازحاً: هو أنت لسه شفت حاجة؟. بدأت العملية بهذا الأسلوب ثم كان مطلوباً منا أن نذهب إلى منظمة المؤتمر الإسلامي بالآلية نفسها لتثبيت حضورنا، ثم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهكذا كانت عودتنا إلى المنظمات الإقليمية والدولية. مَنْ التقيت من القادة العرب كوزير للخارجية؟ - التقيت غالبية القادة العرب. متى التقيت الرئيس بشار الأسد للمرة الأولى وكيف كان اللقاء؟ - بعد تعييني وزيراً للخارجية في أيلول (سبتمبر) 2003 عقد اجتماع لدول الجوار في دمشق في نهاية الشهر. بعد حرب الخليج الأولى في 1991 عندما وُجدت المنطقة الآمنة في شمال العراق قامت تركياوإيران وسورية بوضع آلية واجتماعات ثلاثية بينهم حتى لا ينتقل الوضع الكردي إلى بلادهم وأن يتم احتواؤه. عندما كان عبدالله غل وزير خارجية تركيا بعد حرب العراق في 2003 توسعت هذه الآلية لتشمل أيضاً السعودية والأردن والكويت فأصبحت الدول الست المجاورة للعراق تجتمع حول الوضع في العراق. الاجتماع كان يعقد في سورية ونحن من الواجب أن نحضر فهم يبحثون مصير العراق من دون وجود ممثل عنه فطلبنا الحضور. فأجابنا السوريون أن لا دعوة لنا للحضور. السعوديون والقطريون والبحرينيون والكويتيون قالوا إنه من المفترض أن يحضر العراق بعد أن تغيَّرت الصورة فسابقاً كان صدّام يهدد الجميع وكان العراق معزولاً ولكن الآن من حقه الحضور، ومع ذلك رفض السوريون. عندها ظهرت على شاشات الفضائيات وقلت إننا لن نحضر مثل هذا المؤتمر أبداً ولن نلتزم بأي قرارات تصدر عن اجتماعات دمشق. وبعدها ظهر سياسيون عديدون بينهم جلال طالباني وإبراهيم الجعفري وأياد علاوي انتقدوا الموقف السوري وقامت حملة عنيفة على سورية. لاحقاً عند لقائي بالرئيس الإيراني محمد خاتمي قال لي بالفارسية: إن أفضل ما فعلت أنك لم تذهب إلى ذلك الاجتماع. وكان السوريون اتصلوا بي عشية المؤتمر عارضين أن يرسلوا إليّ طائرة خاصة لنقلي إلى دمشق فقلت أنني لن أحضر إلا بدعوة رسمية توجَّه إلى وزير خارجية العراق ولم أذهب. في اليوم التالي بعثوا برسالة من دون توقيع (وزير الخارجية السوري فاروق الشرع). حتى أن وزير الخارجية الكويتي اتصل عارضاً إرسال طائرة خاصة تقلني إلى سورية فرفضت. أقول ذلك من دون أن أنسى أن علاقاتنا مع سورية لم تكن سيئة قبل إسقاط صدام حسين. في نيسان (أبريل) 2002 توجهنا في زيارة خاصة سرية جداً إلى أميركا مع الأستاذ مسعود بارزاني والأستاذ جلال طالباني، وكانت زيارة غير معلنة، عرفنا خلالها حتمية الحرب وأن لا مجال للمناورة. لم نلتق خلال تلك الزيارة كبار المسؤولين بل الأشخاص العمليين في الدفاع والخارجية والاستخبارات والبيت الأبيض. ظهر لنا مدى حرص الأخ مسعود على العلاقات مع الدول التي كانت تتعاطف مع قضيتنا. فعند عودتنا إلى فرانكفورت قال نحن مدينون لتلك الدول التي ساعدتنا عبر هذه السنين ومن المفروض أن نبلغهم وأن نضعهم في الصورة، وبينهم سورية. واقترح الأخ مسعود أن نتوجه إلى سورية كونهم حلفاءنا وأصدقاءنا ونبلغهم أن الحرب واقعة لا محالة ليتم التفاهم والتنسيق معهم. توجهنا إلى دمشق والتقى الأخ مسعود بالرئيس بشار بحضوري، بينما توجه الأخ جلال إلى إيران. أبلغنا دمشق باكراً قال الأخ مسعود للدكتور بشار إننا توجهنا إلى الولاياتالمتحدة والتقينا مسؤولين أميركيين هناك، من دون ذكر أسماء، ونقل إليه تقديراتنا وتوقعاتنا وأبلغه أنه يبدو أن المسألة محسومة. وباعتبار أنكم حلفاؤنا، ووقفتم إلى جانبنا طوال هذه السنوات في المعارضة، أخلاقياً وأدبياً نبلغكم بهذه المعلومات وأننا نريد تغيير النظام فهذا الوضع لم يعد مقبولاً لأي أحد ويظهر أن الحرب قادمة ولا نستطيع أن نقف ضد الحرب، على العكس نحن مع التغيير ونريد أن ننسق معكم. كانت تلك المرة الأولى التي نلتقي فيها الرئيس بشار الذي قال إن احتمالات الحرب ليست بعيدة لكنها صعبة، وربما تعقِد معكم أميركا اتفاقاً يحولكم إلى ما يشبه تحالف الشمال في أفغانستان، جماعة أحمد شاه مسعود، فيعمدون إلى تسليحكم، لكنه استبعد الحرب البرية، أو لنكن أكثر دقة لم يكن واثقاً من وقوعها مئة في المئة. لكن عبدالحليم خدام قال للأخ جلال: إذا وقعت الحرب تعال إليّ واقطع يدي اليمنى فمازحه الأخ جلال قائلاً: بل سأقطع اليسرى لأنه لن يمكنك الاستغناء عن اليمنى. هذا كان الجو في سورية حول إمكانية الحرب لأنهم استبعدوا إرسال جيوش وحصول مواجهة. نحن قمنا بواجبنا. لكن الرئيس بشار لم يكن يتوقع أن تكون الحرب بهذا الحجم وبتلك الكثافة. أنتقل الآن إلى حين تعييني وزيراً للخارجية كان الجو متوتراً جداً مع سورية. أول زيارة لي كانت في بداية 2004، على رغم أننا كنا نلتقي فاروق الشرع في اجتماعات ودائماً كانت تحدُث مواجهات كلامية بيننا، كانوا يتهموننا بأننا أميركيون وإسرائيليون وأننا طائفيون، شيعة وسنة وتقسيم العراق وفيديرالية وبريمر واحتلال، لكن تلك المواجهات الكلامية لم تخرج عن حدود الاحترام أبداً. وعلى مر الاجتماعات تحسّنت علاقتي بفاروق الشرع. عندما التقيت الرئيس بشار قلت له إن كل المعارضة العراقية الموجودة حالياً، وحتى إذا حدثت انتخابات، هي المعارضة نفسها التي قمتم بإيوائها وحضنتموها ودعمتموها، فالمنطق يقول إن العلاقات العراقية – السورية يجب أن تكون على أحسن ما يرام. صدّام هو الذي جاء بالأميركيين وليس نحن. نحن منذ عام 1991 انتفضنا ضد صدّام وأنتم قمتم بدعمنا بينما سمح له الأميركيون بقصفنا. في ذلك الوقت كانت هناك معلومات عن تسريب بعض المقاتلين عبر الحدود السورية فطلبت مساعدة الرئيس بشار في مسألة ضبط الحدود والأمن، فقال لي إن الحدود السورية مضبوطة لكن يتوجب عليكم ضبط الجانب العراقي منها. فشرحت له وضعنا وأننا لم نؤسس جيشاً بعد بينما أنتم دولة مركزية قائمة. تدخل فاروق الشرع قائلاً إن لا داع لتوجيه الاتهامات ونحن نعرف في حال حصول (أي تسللات). فاستأذنت الرئيس للرد على الوزير أبو مُضَر وقلت له أنا أعرف دمشق أكثر منك وأحياءها وآلية عملها. ونعرف يا فخامة الرئيس أنكم دولة مركزية وقد تعاملنا معكم لكن أنا شخصياً كنت أمرر أجانب، بينهم صحافيون، عبر الحدود السورية بطرق غير مشروعة إلى شمال العراق، ومن دون علم وزير خارجيتك، فقط عبر التنسيق المباشر مع الأجهزة. فضحك الرئيس الأسد وقال: من الواضح أنك تعرف بلدنا أكثر منا. علاقتي أصبحت جيدة بالرئيس بشار وكنا نتبادل النكات. في فترة من الفترات توجه جميع المسؤولين العراقيين إلى سورية فزارها الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان وقيادات أخرى وأنا لم أزرها. وأصبح وليد المعلم وزيراً للخارجية بعد أبو مُضَر وبعثوا برسائل وقال لي وليد المعلم إنه مُحرج فقلت له سأزوركم عندما تنحسر موجة زيارة المسؤولين العراقيين. وقال لي بشار الأسد أنه اشتكاني إلى المسؤولين العراقيين الذين زاروا دمشق، وأضاف أنه في جميع دول العالم وزير الخارجية هو مَنْ يحضر لينسق ويهيئ لرئيس بلده ورئيس وزرائه ليزور بلداً ما، معك أصبحت الآية معكوسة، فأجبته ممازحاً: هذا لتعرف أين مركز القوة. حوار صريح مع الأسد بعد فترة زرت الرئيس بشار عندما وجهت ضربة أميركية إلى هدف في قرية حدودية وكانوا قلقين جداً. قتل الأميركيون عناصر من «القاعدة» وصعّد الأميركيون لهجتهم، وكانت وقعت أحداث القامشلي وانتفاضة الأكراد (آذار-مارس 2004). كانت لدى السوريين معلومات أن قوات البشمركة ستدخل وأن الأخ مسعود أرسلهم، توجهت بصفتي وزير خارجية العراق لأقول لهم إننا لا نتدخل بهذه القضايا وإن معلوماتهم غير صحيحة إطلاقاً. بعد الضربة الأميركية تعمّدت أن أتوجه إلى سورية ولا أنسى أبداً محادثتي مع الرئيس بشار حينها. وللأمانة الرئيس بشار كان يستقبلني في كل زيارة لي لدمشق. أبلغت الرئيس الأسد بتفاصيل خلية «القاعدة» بالأسماء ورقم منزل المسؤول عنها وأنه كان يقوم بعمليات ويجند أشخاصاً وأن المكان كان نقطة عبور للانتحاريين العرب الذين كنتم تتسامحون معهم. السعوديون والليبيون والتونسيون الذين كانوا يصلون مطار دمشق لم يكونوا يُسألون عن الغرض من زيارتهم. قال الرئيس بشار لأنهم لا يحتاجون إلى تأشيرات. قلت: يتوجهون إلى الحسكة وإلى دير الزور لكن لماذا يتوجهون إلى العراق، هل هم في رحلة سياحية؟ هناك أمور واضحة وضوح الشمس ونحن لا نتهمكم ولكن هناك تسريب. عندما كنا في دمشق وكنا في المعارضة كنا نعبر الحدود وكانت لديكم أفضل العلاقات مع صدّام ومع ذلك كنتم تتسامحون معنا. فنحن على دراية بالموضوع. قلت له يا فخامة الرئيس إن بعض المسؤولين في الأجهزة لديكم يعتقد أنه مسيطر على الوضع بينما الحقيقة إنهم يمسكون الحية من ذيلها وسيأتي يوم تلدغكم فيه. لم يعجبه حديثي ولكن ذلك كان رأيي. في كل الاجتماعات الأخرى العربية والإقليمية كنا نلتقي الرئيس الأسد. السياسة السورية لم تكن إيجابية إطلاقاً، كان عندهم مصالح مشتركة وعلاقات استراتيجية مع الإيرانيين لكن رأيهم لم يكن متطابقاً معهم في ما يخص العراق. كان هناك نوع من تقسيم الأدوار، السوريون يتعاملون مع لبنانوالإيرانيون يتعاملون مع العراق فلا يتدخل السوريون فيه. أتحدث عن تفاهم سوري-إيراني غير مكتوب. لم يكونوا متفقين على كل ما يجري في العراق من دعم وتنظيمات حزب البعث والتسهيلات والإعلام المضاد. أذكر أنه خلال وجودنا في دمشق لحضور القمة العربية شاهدنا عبر الفضائيات السورية بعثيين عراقيين يشتمون الحكومة العراقية. قلت لوليد المعلم إذا لم تسكتوا هؤلاء سنقاطع الاجتماع. وتم إسكاتهم فوراً. أذكر زيارة لي مع الرئيس جلال طالباني إلى الرئيس الأسد بعد الثورة المصرية، وقبل بدء الأحداث في سورية، بعد أن أعيد انتخاب الرئيس طالباني للدورة الثانية وشكلت وزارة جديدة حتى أن بعض الوزراء لم يكونوا عُينوا بعد، وكانت أول زيارة خارجية للرئيس طالباني إلى سورية. كانت الآمال منتعشة بتغير الوضع المصري واعتبر السوريون (الرئيس بشار وفاروق الشرع) ذلك لصالحهم وأنه إذا استعاد العراق عافيته سيمسك المحور السوري - العراقي - المصري بالأمة العربية. علاقتي مع وليد المعلم وفاروق الشرع كانت تتميز بالاحترام وتبادل الرأي. نصحتهم ألا يتسرعوا باستنتاجاتهم فالذي حصل في تونس ومصر وما بدأ في ليبيا سيؤثر على الجميع ولن يكون هناك بلد محصن. ربما كنا نحن أفضل بلد لأننا عبرنا الامتحان، لذلك لا نخاف، وكما يقول المثل العراقي «المبلل لا يخشى المطر»، وربما يكون وضعنا أقوى وضع. لم ألمس قلقاً لديهم بل لمست إفراطاً في الثقة بالنفس. لاحقاً جاء وليد المعلم ورئيس الوزراء إلى العراق قبل أحداث درعا فسألت وليد المعلم في بداية الثورة في تونس، ونحن في طريقنا من المطار إلى بغداد: يا أبا طارق ألا تقرأون هذه الرسائل الواردة من تونس؟ لا أتكلم من موقعي كسياسي لكن كاختصاصي في علم الاجتماع أعرف أن هذه حركات شعبية اجتماعية يمكن أن تتطور إلى ثورات وإلى تغيير أنظمة فتلك ليست مؤامرات مبرمجة. وكنت وجهت ذات السؤال إلى عمرو موسى في الفترة نفسها. فقال لي وليد المعلم: هذه رسالة لنا جميعاً. عمرو موسى جاءنا في زيارة إلى بغداد خلال جولة له على عدة دول (في زيارة وداعية له قبيل انتهاء مهمته أميناً عاماً للجامعة العربية) فكنت معه في السيارة وقلت له: يا عمرو نحن مقصرون في الجامعة لا نبحث هذه القضايا، أحداث تونس مخيفة، قال: «لا يا شيخ ده نظام بن علي أكبر نظام بوليسي في العالم». قلت له حتى لو كان نظاماً بوليسياً لكن هذه ثورة اجتماعية شعبية وسترى. فقال لي عمرو موسى هذا نتيجة لسوء الإدارة وفساد الأنظمة والحكام. زرتم سورية غداة تنحي الرئيس حسني مبارك كيف كانت الأجواء في دمشق؟ - نعم زار الرئيس جلال طالباني سورية بعد تنحي مبارك وكنت معه. لم نشعر أن سورية قلقة. بدا واضحاً أن الرئيس بشار يعتقد أن سورية بعيدة عن تلك الأحداث وأن وضعها مختلف ولن تتأثر بالذي حصل في مصر وليبيا بسبب اختلاف طبيعة النظام ويعتبر أن الناس في سورية مرتاحة وليس هناك تهميش. كان يتصور أن الأحداث ستعطي سورية قوة إضافية وستعزز موقفها المقاوم والممانع، وأن النظام العربي السيء الذي كان يمثله حسني مبارك في مهادنة إسرائيل ومع دول الخليج انتهى. السوريون كانوا ينظرون من منظور أن العراق بدأ ينهض من جديد وله دور عربي، ومصر بعد مبارك سيكون لها دور عربي أيضاً، فالعراق وسورية ومصر بإمكانهم أن يقودوا العالم العربي وقد قال الرئيس السوري ذلك بوضوح. وحتى في ذلك الوقت كان السوريون مستائين جداً من الموقف الخليجي ومن كل مواقف الخليجيين السياسية بخصوص القضايا العربية وقضايا لبنانوفلسطين. لم يتصور المسؤولون السوريون أن عاصفة ما سمي «الربيع العربي» ستمتد إلى بلادهم. (غدا حلقة ثانية)