لا يحدث كل يوم أن يتلقى تشكيلي معاصر عرضاً لإعادة تَصوُّر حدائق فرساي الفرنسية الملكية التابعة للقصر بالاسم ذاته والذي شيّد في عهد الملك لويس الرابع عشر، أي في القرن السابع عشر. وتبلورت الفكرة في أذهان المسؤولين عن المكان الذي يزوره ملايين السياح سنوياً، فاقترحوا المشروع على الفنان الفرنسي جان ميشال أوثونيال دون سواه، مؤسس ومدير استوديو أوثونيال للفن المعاصر الذي يرد على كل من يسأله عن حدائق فرساي بأنه لم يقدر على إعادة تخطيط المكان بأكمله وإلا لصار الموضوع بمثابة جنون مطلق نظراً إلى كون القصر والحدائق المحيطة به والمكملة له من الأماكن التاريخية الأثرية التي لا يمكن المساس بها في شكل عميق. ما حصل هو إعادة ترتيب ديكور إحدى المساحات الضخمة التابعة للحدائق والحاملة اسم «حديقة المسرح المائي»، وهي تضم بين روائعها النافورات الشهيرة، وهي من أجمل الأعمال في حدائق قصر فرساي. والمبرر لهذه الفكرة، الاحتفال في ختام العام 2013 بمرور 400 سنة على ميلاد أندريه لونوتر الفنان الذي صمم حدائق فرساي أصلاً، علماً أن المشروع الذي باشره أوثونيال يهدف إلى إحياء «حديقة المسرح المائي» على طريقة لونوتر الأساسية، بعدما تغيرت ملامحها مع مرور الزمن، لا سيما بسبب العواصف التي عرفتها فرنسا وآخرها في العام 1999، ولكن أيضاً لكون إدارات القصر المتتالية عبر الفترات المختلفة أحبت إدخال تعديلات هنا وهناك في أماكن ما من الحدائق. حقق جان ميشال أوثونيال (48 سنة) شهرة عالمية بدأت في تسعينات القرن الماضي، خصوصاً أن دار «فيلا ميديسيس» الثقافية الفنية العريقة في روما، فتحت له أبوابها ليقيم فيها وينجز أعماله داخل مشاغلها واضعة تحت تصرفه كل ما يلزمه. ولمع أوثونيال بفضل اعتماده حرية مطلقة في الرسم والنحت والتصوير، أي إلغاء الحدود التي عادة ما تقيِّد الفنان بفترة محددة. وينتقل أوثونيال ببراعة في الزمن ويقدّم لوحات وتماثيل وصوراً تبدو إما مستقبلية معتمداً طريقة في التنفيذ لا تشبه أي شيء معروف حتى الآن، أو على عكس ذلك قديمة كأنها عائدة إلى فترات ولت من القرن العشرين. وبعدما اعتمد أوثونيال أسلوب العمل بمادة الكبريت في بداية مشواره الفني، انتقل لاحقاً وخلال السنوات العشر الأخيرة تحديداً إلى الزجاج، وليس أي زجاج بل ذلك الرفيع المستوى الخارج من مختبرات مدينة مورانو الإيطالية المعروفة بهذه الحرفة والتي تزود أكبر دور ابتكار المواد الزجاجية والبلورية على مستوى العالم. مظلة أما روح الأعمال الفنية التي ينجزها أوثونيال عموماً، وبصرف النظر عن كونها مرسومة أو منحوتة أو مصورة أو حتى غير ذلك، بما أنه يخرج مسرحيات وأفلام فيديو، فهي تتميز دائماً بصفة واحدة يمكن اعتبارها بمثابة القاسم المشترك الذي يسمح للمشاهد بالتعرف على عمل له فضلاً عن غيره، وهذه الصفة هي الجرح أو الشرخ أو الفراق، أي الحزن بمعنى واسع. وابتكر أوثونيال مثلاً مجموعة من العقود بأحجام ضخمة، وكأن هناك إمرأة ذات حجم خيالي غير بشري ستضع هذه الحلي، وراح يزين بها أشجار حدائق دار «فيلا ميديسيس» في روما مشبّهاً كل شجرة بامرأة، غير أن العقود حملت شروخاً واضحة وعلامات حمراء دلت على أن القلب المكسور لا يزال يقطر دماً. وبين أبرز منجزاته، الزخرفة التي أضافها إلى مدخل محطة رئيسة من محطات قطار المترو الباريسي وهي محطة القصر الملكي (باليه روايال)، فهو زيّن المكان بأقواس زجاج وحديد تشكل في النهاية مخبأ للذين يرغبون في تبادل كلمات الوداع قبل أن ينزل أحدهم الدرج المؤدي إلى قلب المحطة. وهنا أيضاً يحتل عنصر الحزن مكانة أساسية في العمل ككل وإن لم يكن ظاهراً. كما يستخدم المارة «مظلة» أوثونيال لتقيهم المطر موقتاً لدى مرورهم أمامها إذا كانت الأحوال الجوية سيئة.