لم يكن العقد الأخير رحيماً على الإطلاق بقنوات التلفزيون الأميركية الرائدة العملاقة، فمسلسلاتها الدرامية خَسِرت سباق الجمهور والجوائز لمصلحة القنوات التلفزيونية الأقل موازنة والأكثر شباباً، والتي يستلزم لمشاهدتها اشتراكاً شهرياً خاصاً على الكايبل الأميركي. معظم المسلسلات الدرامية الناجحة في السنوات العشر الأخيرة، من إنتاج قنوات تلفزيونية صغيرة نسبياً مثل: «إتش بي او»، «أي أم سي» («بريكينغ باد» و«الميت الماشي» و«رجال مجانين») و«شوتايم» («هوملاند» و«ماسترز اوف سكس»). القنوات التلفزيونية الأميركية الكبيرة، (التي يَصل بثها إلى غالبية الأميركيين، على خلاف قنوات الكايبل الخاص التي يتركز جمهورها في المدن الأميركية الكبيرة) خسرت أيضاً جزءاً كبيراً من السوق العالمية، فالقنوات التلفزيونية الأوروبية تُفضل شراء مسلسلات قريبة في معالجاتها وأسلوبها مما تقدمه هي لجمهورها، لذلك اختارت مسلسلات فنيّة أميركية عائدة لقنوات تلفزيونية صغيرة، وأهملت مسلسلات القنوات الأميركية التقليدية، التي يبدو معظمها كأنه نِتاج اجتماعات تحرير طويلة، لتفصيل أحداثها مشهداً بعد الآخر، لتُناسب ما تعتبره ذائقة شعبية أميركية معروفة. أخيراً، بدأ بعض القنوات الأميركية البارزة محاولات تقليد أسلوب وموضوعات مسلسلات القنوات المحدودة المشاهدة، فمع بداية دورة هذا الخريف، بدأ عرض مسلسلين جديدين، كلاهما يتناول موضوعة الإرهاب، وهي الموضوعة ذاتها، التي تُشكل عَصّب المسلسل الناجح «هوملاند» الذي يعرض موسمه الثالث. المسلسلان هما: «رهائن» لقناة «سي بي أس»، و»القائمة السوداء» الذي يعرض على قناة «أن بي سي». في المسلسلين الجديدين إذاً، يَحّل الإرهاب الذي يُهدد الأمن القومي الأميركي محل الجريمة التي تهيمن بالعادة على مسلسلات الدراما والتحريّ الأميركية. فمسلسل «رهائن»، هو عن محاولة لاغتيال الرئيس الأميركي. ولكن، بدلاً من عملية الاغتيال التقليدي، تخطط الجهة التي تقف خلف العملية، للتخلص من الرئيس عن طريق طبيبة، من المنتظر أن تقوم بعملية جراحيّة بسيطة للهدف. ولإجبار الطبيبة على تنفيذ هذا الأمر، تحتجز الجهة المخططة أفراد عائلتها في منزلهم، وتهددها بقتلهم إن لم تنفذ ما يطلبون. بعد الحلقة الأولى المتوسطة الجودة، تبدأ الثقوب الصغيرة الموجودة في القصة بالاتساع في شكل مضطرد. صحيح إن الموقف الذي وضعت فيه الطبيبة وعائلتها هو صعب جداً، لكن حِدته ستخف كثيراً بعد الحلقة الأولى، وسيُستنزف درامياً بعد الحلقة الثانية، ليسقط في التكرار والمواقف المبالغة في عاطفيتها، كما يعود الوضوح واليقين للشخصيات، والتي بدت لوهلة وكأنها ستتجه إلى وجهات غير مألوفة. أما مسلسل «قائمة سوداء» فهو نسخة تلفزيونية سيئة عن الفيلم الأميركي «صَمّت الحملان»، فهناك أيضاً المجرم الغريب الأطوار والشديد الذكاء، والذي يطلب حضور عميلة لمكتب التحقيقات الفيديرالي (أف بي أي)، كشرط للتعاون مع السلطات الأمنية، للكشف عن عمليات إرهابية تهدد الولاياتالمتحدة. الحلقة الأولى تمحورت حول إرهابيين من صربيا (يحّلون منذ فترة محّل العرب كإرهابيي السينما والتلفزيون الأميركيين الجُدد!)، يحاولون تفجير قنابل كيماوية في أمكنة عامة في العاصمة الأميركية واشنطن. المسلسل ينتمي إلى تيار مُكرس في الدراما الأميركية، من الذي يغمز بسريّة للجمهور بأن لا يقلق كثيراً مما يراه في بداية كل حلقة، وإنه سيكون بأمان معه، فكلنا نعرف إن الإرهابيين لن يفجروا أي قنابل في واشنطن، وإن الدراما المبالغ في سوداويتها في بداية كل حلقة، ستنتهي بنجاح جديد للاستخبارات الأميركية في نهاية الحلقة ذاتها. ما يفتقده هذان العملان الجديدان، هو، ما جعل مسلسلات مثل «بريكينغ باد» و«هوملاند» تحظى بنجاح غير مسبوق، أي تعقيد الشخصيات فيهما، والاهتزاز المتواصل لبوصلتها الأخلاقية، لتثير تعاطف المشاهد تارة، وحيرته وأحياناً اشمئزازه تارة أخرى. المسلسلان دليل جديد على الهوّة بين التلفزيون التجاري، والقنوات التي تمنح فُسحات من الحريّة لكتاب الدراما، من دون تدخلات كبيرة من المنتجين ومديري القنوات. هذه الهوّة تشبه تلك التي نجدها بين الأفلام الآتية من هوليوود، وتلك التي تنتجها السينما المستقلة الأميركية، ولكن إذا كانت الأخيرة تعاني مشاكل كبيرة في التوزيع في الولاياتالمتحدة والعالم، تعيش الدراما التلفزيونية الأميركية الفنيّة، أفضل أوقاتها على الإطلاق، محليّاً وعالمياً.