يشكو عرب ومسلمون من تمييز أو اضطهاد يعانوننه أحياناً في أوروبا. قد يتجلى هذا التمييز في مجرد نظرة «غريبة» أو «ممتعضة» إزاء امرأة محجّبة في باص أو قطار، لكنه يمكن أن يصل إلى درجة الاعتداء البدني على مسلمين وأماكن عبادتهم، كما دلّت على ذلك جريمة الطالب الأوكراني بافلو لابشين قبل فترة وجيزة في بيرمنغهام (وسط إنكلترا)، عندما قتل عجوزاً في الثانية والثمانين من عمره لمجرد أنه مسلم ملتحٍ كان خارجاً للتو من مسجد، إضافة إلى زرعه عبوات ناسفة قرب أماكن عبادة للمسلمين. وإذا كان تصرّف لابشين يُعتبر بحق حالة استثنائية، فإن هذا لا ينفي في الوقت ذاته أن هناك تمييزاً يتعرّض له المسلمون أحياناً في بريطانيا وغيرها من البلدان الأوروبية. وفي واقع الأمر، لجأت حكومات أوروبية عدة - بينها بريطانيا - إلى سن تشريعات مشددة تمنع التمييز ضد المسلمين، لكنها تظل عاجزة عن القضاء كلياً على مثل هذه الظواهر. فالتمييز ليس شيئاً يمكن محوه بجرة قلم، بل غالباً ما يكون متجذراً في النفوس، وتغذّيه بلا شك وسائل إعلام شعبية تركّز على إبراز تصرفات مشينة يرتكبها منتمون إلى الطائفة التي تتعرض للتمييز. لكن إذا كان التمييز ضد الأقليات المسلمة في أوروبا بات أمراً معروفاً وهناك من يعمل على التصدّي رسمياً أو شعبياً، فإن هناك أقلية أخرى هي أقلية الغجر التي تعاني تمييزاً لا يقل عن التمييز ضد المسلمين لكن أحداً لم يهتم بمعاناتها لولا قصة «ماريا الشقراء». فقد كشفت قصة «ماريا»، تلك الطفلة الشقراء ذات العينين الزرقاوين التي عُثر عليها قبل أيام مع رجل وامرأة من الغجر البلغار المقيمين في شكل موقت في اليونان، جزءاً من «المستور» في النظرة الفوقية والتمييزية التي لا يزال بعض الأوروبيين ينظر بها إلى المنتمين إلى هذه الأقلية التي عانت الاضطهاد لقرون في القارة العجوز، ولا تزال تعانيه حتى اليوم. لم تكن «ماريا» حقاً الابنة الطبيعية لكريستوس ساليس (39 سنة) ولا ابنة صديقته إيلفثيريا ديموبولو (40 سنة). لكنهما لم يخطفاها أيضاً من والديها الحقيقيين، بعكس الإشاعات التي انتشرت فور اعتقالهما في منطقة لاريسا اليونانية في 17 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. إذ لم تمر أيام قليلة على توقيفهما حتى تبيّن فعلاً أن «ماريا الشقراء» هي حقاً ابنة عائلة غجرية ذات «بشرة داكنة» أعطتها لكريستوس وإيلفثيريا بسبب اضطرارها للعودة، مع بقية أطفالها، من اليونان إلى بلغاريا. وقد عاشت «ماريا»، كما يبدو، مع عائلتها الجديدة كأنها فرد منها، إلى أن جاءت الشرطة اليونانية وانتزعتها من الشخصين اللذين مارسا دور أمها وأبيها، وزجت بهما في السجن بشبهة «خطف الأطفال». وتهمة «خطف الأطفال»، في الواقع، مرتبطة إلى حد كبير في الفولكلور الأوروبي بالغجر من دون غيرهم. إذ تروي الحكايات قصصاً عن نسوة غجريات «يخطفن الأطفال»، من دون أن يكون هناك أي دليل على أنها قصص تستند إلى حوادث واقعية، أو أنها، حتى ولو كانت حقيقية، «حكر» على الغجريات دون غيرهن. وفي العصور الوسطى، كان الغجر الذين كانوا يوصفون ب «الداكني البشرة»، يثيرون شعوراً بالخوف لدى الأوروبيين خلال ترحالهم من مكان إلى آخر. وبررت نظرة الخوف هذه سن قوانين وتشريعات تستهدفهم وتسمح بالتمييز ضدهم. فقد سنّت «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» حوالى العام 1551 أكثر من 133 تشريعاً تميّز ضد الغجر وتتيح إصدار حكم بالإعدام على من يُدان بتهمة أنه غجري. واستمرت هذه النظرة إلى الغجر حتى عقود قليلة مضت حين جمعهم النازيون، في معسكرات الإبادة حيث مات مئات الآلاف منهم خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. لكن ما فعله النازيون بالغجر لم يؤد كما يبدو إلى تغيير كبير في نظرة بعض الأوروبيين اليهم، فقد ظلوا يُقدّمون بوصفهم مجموعات من الرحّل الذين «يرتكبون جرائم» خلال ترحالهم من منطقة إلى أخرى، أو كانت الجرائم تُنسب إليهم لمجرد حصولها في المنطقة التي يوجدون فيها. ويشترك الإرلنديون وبعض البريطانيين في هذه النظرة إلى مجموعات من الرحّل (من دون أن يكونوا من الغجر تحديداً) الذين تروى حكايات عن خطفهم أطفالاً خلال تنقلّهم بسيارات «فان بيضاء» تُركن في مستوطنات متنقلة تضم الواحدة منها مئات العائلات التي لا تزال تعيش حياة البدو الرحل في أوروبا. وعلى رغم أن هناك أكثر من 10 ملايين غجري موزعين حول العالم اليوم (فيهم المسلمون والمسيحيون)، فإن بضعة آلاف فقط لا يزالون يعيشون في مخيّمات. وليس واضحاً تماماً ما إذا كانت هذه النظرة إلى الغجر لعبت أي دور في قيام الشرطة الإرلندية، بعد أيام فقط من حادثة «ماريا الشقراء» في اليونان، بدهم منزل عائلة غجرية في دبلن حيث «انتزعت» طفلة (8 سنوات) من والديها بشبهة أنهما خطفاها. وعلى رغم تأكيد الأم والأب أنهما حقاً الوالدان الطبيعيان للطفلة، إلا أن أجهزة الرعاية الاجتماعية والشرطة لم تقبل سوى بأخذها منهما ووضعها في رعاية عائلة أخرى. كان للشرطة «شكوكها المشروعة»، كما يبدو. فقد شكا الجيران من أن الطفلة المعنية تتكلّم الإنكليزية بطلاقة تميّزها عن أخوتها! كما أنها تتمتع ب «بشرة فاتحة» و»عينين زرقاوين»، بعكس أخوتها الداكني البشرة! فالطفلة «الشقراء» إذاً لا شك في أنها «مخطوفة» من «داكني البشرة»، إذ لا يُعقل أنها حقاً ابنتهما «الطبيعية». عرض الوالدان، المفجوعان بانتزاع طفلتهما منهما، جوازات سفر ووثائق ميلاد تؤكد أن «الطفلة الشقراء» هي ابنتهما فعلاً، لكن رجال الأمن لم يصدقوهما. رجا الوالدان مجدداً الشرطة أن تأخذ فحصاً للحمض النووي لهما لمقارنته بحمض طفلتهما للتأكد من أنها حقاً ابنتهما الطبيعية. وقد أثبتت الفحوص فعلاً أنها ابنتهما، ولكن بعد أن حُرما من رؤيتها طوال ثلاثة أيام رفضت هي خلالها أن تأكل شيئاً احتجاجاً على انتزاعها من حضن إمها وأبيها. حُل لغز «شقراء دبلن» كما حُل لغز «ماريا الشقراء» في اليونان. لكن الهستيريا التي أحاطت بقضيتهما كانت كافية لكشف مدى «التمييز» الذين يعانيه غجر أوروبا، إذ امتلأت الصحف الشعبية بتقارير تحمل تلميحات فاضحة تُذكّر بالقصص الخرافية عن وقوف الغجر وراء حوادث «خطف الأطفال» التي تحصل في القارة العجوز.