لا يمكن زائر معرض الشارقة لبضعة أيام أن يتابع ما يجري من ندوات ولقاءات ومحترفات تتقاطع زمنياً حتى ليشهد نهار واحد، يبدأ عند العاشرة صباحاً وينتهي في العاشرة ليلاً، نحو خمسة وعشرين نشاطاً عربيًا «جاداً» ما خلا أنشطة موجهة إلى جمهور آسيوي يتدفق بغزارة، وأخرى إلى الأطفال الذين يتوافدون بأعداد غزيرة وهم ينعمون ببرنامج ثقافي وفني وترفيهي حافل، إضافة إلى «هبات» مالية (كوبونات) تخصهم بها الإدارة الرسمية تخولهم شراء الكتب مجاناً. أصبح المعرض ضخماً بما تعني الضخامة كافة: حجم المساحة بقاعاتها الخمس الهائلة عطفاً على المسارح والصالات والأروقة والمقاهي والمكاتب، الأنشطة التي تقارب السبعمئة وثمانين، الكتّاب المدعوون إلى المشاركة من العالم العربي وأوروبا وأميركا وآسيا، الناشرون العرب والآسيويون (1256 داراً من 59 دولة)، المنصات والأجنحة الرسمية العربية والعالمية، والجمهور الذي لا يمكن إحصاؤه وهو متعدد أعماراً وأجيالاً وأعراقاً... وزائر الشارقة في أيام المعرض يلحظ بسهولة أن المدينة كلها تحتفي بهذا الحدث السنوي احتفالاً شكلياً: لوحات إعلانية إلكترونية وملصقات وصور لكتّاب مشاركين، عرب وعالميين، تتوزع على أعمدة الطرق. وقد لا يفاجأ الزائر إذا رأى صور دان براون أو عادل إمام أو أحلام مستغانمي أو وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، أو ياسمينة خضرة، الكاتب الجزائري الفرنكوفوني... وثمة صور أخرى حملت وجوه كتاب شبه معروفين، لا تعني القراء المحليين ولا العرب. ولعل بضعة من الضيوف الذين اعتبرهم المعرض «نجوماً» لم تعرف ندواتهم ولقاءاتهم إقبالاً لافتاً. هذا معرض ضخم للكتاب، وقد لا يضاهيه ضخامةً في العالم العربي سوى معرض القاهرة، لكنه دون معرض الشارقة تنظيماً وفخامة وأناقة وتوثيقاً واهتماماً بقضايا النشر الورقي والإلكتروني، وانفتاحاً على الغرب، لا سيما الأنغلوساكسوني. وقد حلت هذه السنة صحيفة «إنترناشونال نيويورك تايمز» شريكاً رئيسياً في المعرض. ضخامة معرض القاهرة تعود إلى طبيعة القاهرة نفسها وإلى الأعداد الهائلة من الزائرين، أما الضخامة هنا في الشارقة، فلا تُقاس إلا نظراً إلى طبيعة الشارقة والنموذج الغربي الذي يعتمده المعرض، شكلاً وتقنيات. وتضفي عراقة هذا المعرض الذي بلغ من العمر ثلاثاً وثلاثين دورة إلى «شخصيته»، ملامح التفرد الثقافي، فهو كان سباقاً في بلورة صورة الأدب الإماراتي وتقديم الكتاب الإماراتيين وإحياء لقاء حقيقي بين الثقافة المحلية والثقافة العربية، نظراً إلى أن الشارقة كانت تُعد - وما زالت - عاصمة الثقافة الإماراتية على رغم مزاحمة أبو ظبي ودبي لها اليوم، لا سيما من خلال انفتاحهما على ثقافات العالم وفنونه وآدابه الحديثة. ولئن أحدث الروائي الأميركي دان براون ضوضاء وجمع في لقائه المفتوح جمهوراً غفيراً معظمه من القراء الأجانب والآسيويين، فالممثل المصري الشعبي عادل إمام تمكّن في اللقاء الذي أحياه من جذب جمهور إماراتي وعربي كبير معظمه من هواة أفلامه. وفي اللقاءين ضاقت الصالة الواسعة بجمهورين كانا مختلفين كل الاختلاف، جمهور براون الذي أقبل على شراء رواياته بالإنكليزية والعربية وبعض الترجمات الآسيوية، وجمهور إمام الذي جاء ليحتفل بنجمه تصفيقاً وهتافاً، لا سيما عندما حيا الجيش المصري. تحدث دان براون في اللقاء باختصار وردّ على بعض أسئلة الجمهور، وأثنى على كلمة الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة في الافتتاح قائلاً: «نحتاج إلى أن نشعل الشموع في مواجهة الظلام المتصاعد». وكان الشيخ القاسمي الذي أصر على حضور الكثير من الندوات، ألقى في حفلة الافتتاح كلمة ذات طابع وجداني وفكري ومما قال: «مهلاً يا قلب... استكن، لا تدفعني إلى أن ألعن الظلام، بل ادفع بي لأوقد شمعة تنير لنا الطريق في هذا العالم المظلم». تذكر دان براون في اللقاء والديه ومما قال: «كان والدي يعمل أستاذاً في علم الرياضيات وكان يصطحبني معه في الليل دوماً إلى أماكن مفتوحة لمراقبة حركة النجوم والكواكب، أما والدتي فكانت تحترف الموسيقى الدينية». وختم قائلاً: «العلم والدين شريكان ولكن بلغتين مختلفتين». أما عادل إمام النجم الشعبي فوجد نفسه أمام جمهور من المعجبين ملأ الصالة والمدخل، ولم يتوانَ عن الحديث عن الثقافة التي هي «وحدها القادرة على البناء أكثر من المال» وعن الكتاب، ثم عن مصر الراهنة والجيش المصري. لكنه لم يتخلَّ عن فكاهياته ومما قال في هذا القبيل: «أنا سعيد لأنني عادل إمام... بالحقيقة أنا محظوظ لأنني عادل إمام». وقد يسأل سائل ما الذي أتى بهذا النجم الكوميدي إلى معرض للكتاب؟ وقد يكون الجواب هو جماهيريته أو قدرته على جذب الجماهير. أما أكثر ما يلفت في المعرض فهو الفسحة الكبيرة التي ينعم بها الأدب الآسيوي، لا سيما الهندي في مختلف اللغات الهندية. عندما يدخل الزائر صالة الأدب الآسيوي التي ضمت في هذه الدورة ستاً وخمسين داراً، يظن نفسه في معرض هندي أو باكستاني. رفوف مملوءة كتباً وأجنحة تغص بجمهور ينتظر كل سنة هذه الفرصة ليختار مؤونته الكتبية. أما الندوات التي يحييها كتاب آسيويون فهي غالباً ما تكون مزدحمة ويشارك الحاضرون في النقاش جدياً ويطرحون الأسئلة. وهذه السنة دعا المعرض جمعاً كبيراً من الكتاب الآسيويين ومنهم: الكاتب الهندي الكبير شيف خيرا، الكاتبة الباكستانية كاملة شمسي والروائيان الهنديان أميتاف غوش وأميش تريباتي، علاوة على نجمة السينما الهندية الممثلة مانغو واريير. الندوات واللقاءات الثقافية والأدبية العربية التي شهدها المعرض بوفرة حتى إن مواعيدها تداخلت بعضاً ببعض، توزعت عناوينها على قضايا وموضوعات كثيرة تعني الثقافة العربية والأدب العربي الجديد والأسئلة السياسية والفكرية المطروحة راهناً. ومن الأسماء العربية التي شاركت: صنع الله إبراهيم، إبراهيم عبدالمجيد، فاروق جويدة، حمدي قنديل، فريدة الشوباشي، يوسف زيدان، أشرف الخمايسي (مصر)، علي حرب، أنطوان الدويهي، عبده وازن (لبنان)، يوسف فاضل، سعيد يقطين (المغرب)، خالد خليفة (سورية)، إنعام كجه جي (العراق)، عبدالسلام المسدي، يوسف الصديق (تونس)، بدرية البشر، ليلى الجهني (السعودية)، أمير تاج السر (السودان)، فاطمة العلي (الكويت)، محمود الريماوي، فخري صالح (الأردن)... ومن الندوات المهمة التي نظمها المعرض «البرنامج المهني للناشرين» وشارك فيه ناشرون عرب وعالميون، وهو يهدف إلى تطوير مهارات الناشرين العرب من أجل مواكبة الحراك الإقليمي والعالمي في ميدان النشر. وأعلن في اللقاء إطلاق مشروع «يور فراي» لتحفيز الناشرين العرب على الإبداع والابتكار. وتطرق المتندون إلى منحة الترجمة التي يقدمها صندوق معرض الشارقة منذ ثلاث سنوات لتشجيع حركة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات العالمية والعكس، من خلال تقديم منح مالية جزئية للناشرين لمساعدتهم في ترجمة الكتب إلى اللغات الأجنبية. لا يستطيع زائر المعرض ولا حتى الصحافة نفسها، أن يلمّا بما يحصل من ندوات ولقاءات وبرامج يصعب إحصاؤها. عجلة الأنشطة تدور بدءاً من العاشرة صباحاً ولا تتوقف إلا عند العاشرة ليلاً. وبين الصباح والمساء يكتشف الزائر أن الجعجعة كانت قوية وأن الطحن كان وافراً حتى التبعثر.