«داعش» ليس حزباً ولا تنظيماً مسلحاً أو مؤسسة، بل هو حركة اجتماعية سياسية، نجمت من التقاء مشاعر القهر والدونية التي تعاني منها منذ نحو قرن، قطاعات واسعة من المسلمين. قد لا يعرف الكثير من المهتمين والمتابعين، إن منطقة شمال شرقي سورية حيث يتمركز «داعش» اليوم، قد شهدت اكبر هجرة جماعية طوعية في تاريخ المنطقة، فقد غادر الجزيرة السورية في السنوات الخمس التي سبقت الثورة، نحو مليون ونصف مليون انسان، متوجهين إلى المدن الداخلية من البلاد، بحثاً عن لقمة العيش. علماً أن هذه المنطقة تنتج 60 بالمئة من محصولَي القمح والقطن الإستراتيجيين، ويستخرج منها نحو تسعين في المئة من النفط والغاز السورية. إن المنطقة التي كانت الضحية الأبرز لذلك الفساد والنهب، اصبحت اليوم مركز دولة «داعش»، وهجرة أبنائها إلى المحافظات الأخرى، تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى هجرة أيديولوجية إلى الجنّة، في أقصى رد حدّي محتمل، على فساد منظومة القيم، والغبن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. أما في الإقليم، فإن صعود وتمكن مشروعين من طبيعة دينية ومذهبية، معاديين تاريخياً للأكثرية في المنطقة، هما الكيان اليهودي في إسرائيل، والمشروع الإيراني، تمنح فكرة «داعش»، الصلابة والتماسك المطلوبين لرصّ كتلة السكان الكبيرة، المنتشرة على رقعة واسعة جداً في بلدان عدة، وتضم عشرات الملايين من البشر. وقد يكون من المفيد هنا التذكير بأن تنظيم «داعش» نشأ فعلياً بعيد سقوط نظام صدام حسين في العراق، ومرَّ بمراحل عدة متصاعدة، من تنظيم سني صغير متشدد يقوده الزرقاوي، إلى الدولة الإسلامية في العراق، ثم في العراق والشام، ثم «الدولة الإسلامية»، وقد تزامن تطوره في كل هذه المراحل من تصاعد النفوذ والهيمنة الإيرانية على العراق، مجتمعاً ودولة. وفي العالم الأوسع، يشعر هؤلاء الناس أيضاً بالضآلة وتدني المكانة، إذ تتقدم العولمة باضطراد، وتنتزع مزيداً من الحيّزات الأكثر خصوصية وحساسية في المنظومة الثقافية للمجتمعات المعنية، من دون أن يكون لديها ما تدافع به عن نفسها سوى الرفض العنيف والحاد، وبناء الأسوار العالية في وجه هذا الزحف الكاسح، وهنا تمثل عزلة «الدولة الإسلامية» التي أقامها «داعش»، ميزة مرغوبة وليست مقتلاً أو نقطة ضعف، فالدينامية التي تحرك منظومتها داخلية وليست خارجية، والاغتراب عن العالم الخارجي، واعتمادها على عناصر اصيلة ونقية، يزيدها جاذبية ومتانة، وبسبب هذا يوجه التنظيم رسائله العنيفة إلى الخارج باللغة الإنكليزية، سواء بالفيديوات التي يبثها، أو بوسيلة اعلامه الوحيدة المطبوعة وهي مجلة دابق، فهو يريد ان يتحدى ويصفع العالم، ويرد له الصاع صاعين. إن تلك الدوائر الثلاث التي انبثق تنظيم «داعش» من بؤرتها، وأخرجته من دائرة المشاعر والانفعالات، إلى حيز الواقع السياسي، ستستمر بدفعه إلى السطح، وحتى فيما لو تم سحقه بالوسائل العسكرية، فإن اعدامه كلياً سيكون مستحيلاً، لا بل أن ذلك السحق السطحي سيعطيه قاعدة أوسع في الأعماق الوجدانية لملايين السنَّة، وستبقى دولتهم التي قامت بالفعل في العاشر من حزيران (يونيو) عام 2014، وشغلت العالم بأسره، المثال الساطع على قوتهم التي يمكنهم تحقيقها، أما القضاء عليها عسكرياً إن حصل، فسوف يعزّز فكرة التآمر والعداء الكوني لهم، ومنها سينطلقون إلى محاولة اخرى، ستكون أكثر جذرية وتكاملاً. ليس بالإمكان اليوم وقف مسار العولمة، ولا بناء منظومة دولية أكثر عدلاً، لكن يمكن سحب البساط من تحت ارجل هذا التنظيم بالعمل على جعل الأوضاع داخل بلدان الشرق الأوسط أكثر عدالة وتشاركية، ولجم مشاريع الهيمنة الإقليمية وتحجيمها، بخاصة المشروع الإيراني الذي يواصل العمل ليل نهار للحصول على سلاح نووي يمارس من خلاله مزيداً من العدوانية والتسلط في الإقليم، وإرساء نظام اقليمي متوازن ومستقر. على أن «داعش» ولو دفن حياً تحت أساسات ذلك النظام، سيبقى شبحاً مدمراً لا يلبث أن يبرز، ما أن تختل تلك الأساسات أو يعبث بها أحدهم. لكن هل فعلاً أن هناك من يرغب بدفن «داعش»؟ أم أن السماح بظهوره كأحد أدوات الفوضى الخلاقة، كان فعلاً إرادوياً ومقصوداً، في سياق تدمير ذاتي حيوي لهذه المنطقة الإشكالية التي ما فتئت تسبّب الصداع لعالم اليوم، بقضاياها ومشاكلها المستعصية والكثيرة؟