لسنوات ظلت نصيرات النسوية ينتقدن الصورة التي تتعامل بها السينما مع أجساد النساء باعتبارها موضوعاً للفرجة والتطلع من قبل أبطال الفيلم والمتفرجين الذكور، ويؤكدن عملية تشييء جسد المرأة في الثقافة الاستهلاكية، ومن بين هؤلاء المفكرة النسوية المعروفة لورا ميلفي بدراستها «المتعة البصرية والسينما الروائية» والتي فتحت مجالاً خصباً أمام النقد النسوي والسينمائي، حيث ربطت بين أفكارها والتحليل الفرويدي الذي يعتبر أن التطلع والذات المتطلعة شيئاً سادياً إيجابياً مذكراً، في حين أن موضوع النظر مازوشي سلبي مؤنث، كما ربطت ميلفي أفكارها بالحركة النسوية التي أعادت النظر في الأدوار التي تفرضها الثقافة على كل من النساء والرجال. المثير للاهتمام أن كتاب «الرجل على الشاشة... استكشاف الذكورة في سينما هوليوود» يتضمن ثلاث عشرة دراسة تكشف بالتحليل العميق أن التطلع والفرجة في السينما لا يقتصران على النساء وأجسادهن ولكنهما يطاولان الرجال وأجسادهم أيضاً بأشكال مشابهة ومختلفة. وذلك من خلال رصد العلاقة بين الفن والمجتمع، ودراسة الطبيعة الثقافية والفكرية والنفسية لهذا المجتمع، وتحليل صورة الرجل على الشاشة من خلال مجموعة من الأفلام تنتمي في معظمها إلى الأنواع الشعبية الناجحة تجارياً. صدر الكتاب عن سلسلة مكتبة الأسرة بالهيئة المصرية العامة للكتاب. وهو يقع في 416 صفحة تتضمن أربعة أقسام هي: فواصل النجوم – الرجال في مواضع النساء – رجل لرجل – ذكورات عضلية. وقام بتحرير الكتاب في أصله الإنكليزي، ستيفن كوهان، وآنا راي هارك، وشارك فيه مجموعة من الأساتذة الجامعيين المتخصصين في الدراسات الأدبية والسينمائية. وترجمه إلى العربية الناقد السينمائي المصري عصام زكريا الذي بذل فيه جهداً كبيراً ليس فقط لأنه استغرق منه قرابة عامين لرغبته في تدقيق عشرات المصطلحات الواردة في الكتاب، ولكن أيضاً لحرصه على تقديم ملاحظات توضيحية ذات أهمية حول أصول عشرات الإحالات إلى أعمال وأحداث سينمائية وأدبية وتاريخية واجتماعية. يبحث الكتاب في الدلالات الثقافية للنجوم الرجال وصورهم داخل الأفلام، والأنواع الفنية السينمائية التي تدور حول الذكر والتي تتأثر بالتغيرات الاجتماعية السياسية. وهو أثناء ذلك يرصد الاستثمار الثقافي المعقد والكبير الذي أنفقته سينما هوليوود على مدار تاريخها في استعراض جسد الذكر. ويختبر من منظور واسع متعدد الرؤى فرضية أن هذا الذكر في الثقافة الأميركية – ومن خلال قصص أفلام هوليوود - ما هو إلا بناء صنعه المجتمع، وأن جسده قد تم تشييئه في الثقافة الاستهلاكية منذ العقد الأول من القرن الماضي. والدراسات الثلاثة عشر تشترك في انشغالها بمواضيع دائماً ما ربطتها نظرية الفيلم بالمرأة وليس الرجل مثل: الفرجة – المازوشية – السلبية – التنكر، والجسد في دلالته على الاختلافات العرقية والطبقية وعلى الاختلاف بين الجنسين وبين الأجيال. في القسم الأول من الدراسة يتم فحص ثلاثة من الراقصين الرجال كان استعراضهم لجسدهم باعتباره فرجة في أفلامهم أمراً لافتاً، ولا يمكن فصله عن صورهم كنجوم، فمثلاً في دراسة «فالنتينو.. السُكر البصري وجنون الرقص» يتم تحليل الخطاب الثقافي للنوع الجنسي والعرقي الذي نشأ عن حمى الرقص، بين النساء بالأساس، التي اجتاحت أميركا في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين. ففي هذا السياق ظهرت نجومية رودلف فالنتينو والراقص الرجل الذي أثار سخرية الصحافة الشعبية باعتباره «رجلاً صنيعة النساء» لكنه أيضاً كان يمثل الكثير من الأميركيين الذكور في تلك الفترة. أما في «تأنيث رجل الرقص والغناء.. فريد آستير والفرجة على الذكورة في أفلام هوليوود الموسيقية» ومن خلال شخصية النجم آستير في الفواصل الغنائية الراقصة بأفلامه، فيُؤكد البحث على وجود الفرجة التي طالما شفرتها السينما الهوليوودية الكلاسيكية باعتبارها شيئاً أنثوياً، وعلى أن الفرجة على الذكر التي يقدمها آستير تتناقض مع موقفه النشيط كرجل في النظام الأبوي. فإذا كانت لورا ميلفي تشير إلى أن هذه الفقرات الاستعراضية «تساوي الأنوثة بالفرجة وتبلور وضعها كأيقونة ثابتة لرغبة الذكر، وتميز بين الاستعراضية والسلبية الأنثويتين وبين التلصصية والفعالية الذكورية»، فإن أفلام هوليوود الموسيقية التي نُظر إليها دائماً على أنها تعبير عن البهجة المنفلتة والحرية البدنية وفق هذه الدراسة هي «النوع الفني الوحيد الذي يقوم فيه جسد الذكر بالاستعراض في السينما السائدة». و «من خلال هذه الفرجة الصارخة على الرجال تتحدى الأفلام الموسيقية هذا الفصل القائم على التمييز بين الجنسين»، مثلما تؤكد الدراسة أن قناع آستير السينمائي استفاد من كل التقنيات التي توفرها الصناعة لإفتان الجمهور بصورته الذكورية في المجازات نفسها التي يطلق عليها «أنثوية»، وهي النرجسية والاستعراضية والتنكرية. ولا يغفل المؤلف تعقيدات الفرجة على الرجل بكل ما تضمنه من «مطالعة شهوانية صريحة»، أو «تعطيل سياسة التطلع الشهواني». السلطة النسائية في حين تتعقب الدراسة الأولى من القسم المعنون ب«الرجال في مواقع النساء» جدلية السلطة الأنثوية والهيستيريا الذكورية في فيلم «أسمعني مقطوعة ميستي» Play Misty for me حيث يلعب كلينت ايستوود دوراً كان يُعطى عادة للأنثى في حكايات المطارد القاتل. وإلى جانب تصوير ولع ايستوود بالملابس الضيقة ذات النقوش المطبوعة الصارخة «غير الرجولية»، ركز العمل كذلك على «دراما التخلي عن بعض امتيازات الذكر الأبيض غيري الجنس، وعن بطل يحاول بدرجات مختلفة من النجاح أن يراعي حقوق السود والشواذ، وبشكل أساسي النساء». وتتطرق غير دراسة في الكتاب إلى مازوشية الذكر ومنها أفلام الأنثى المنتقمة لشرفها والتي على عكس الدراسات السابقة – بخاصة النسوية – ووفق الدراسة الجديدة فإن هذه الأفلام تقدم بالأساس إلى ذكر مازوشي يتماهى مع عمليات التعذيب البشعة التي يتعرض لها الرجال الآخرون. كما أن بنية الرجال المسوخ في أفلام الرعب تتسم بصفات أنثوية، بينما يسعى السفاحون والمنحرفون عقلياً، الذهانيون من «سايكو»، و «تزين ليقتل» إلى «صمت الحملان» إلى ارتداء جسد المرأة. أما الدراسة الختامية في الكتاب فتحمل عنوان «هل يمكن القضاء على الذكورة؟» وتتناول التحول من الذكورة العضلية الخارجية نحو قصص تنشغل وتهتم أكثر بباطن الرجل خصوصاً في سينما التسعينات، كما تلاحظ «استبدال الأم بالأب كدال على الأبوة والأمومة معاً واستعادة الذكورة الفحلة المدمرة حتى أثناء تبديدها لنفسها».