على طريقة العريس في الزمن الفلسطيني القديم، حملت والدة الأسير المحرر هزاع السعدي صينية مطرزة بورق الشجر، عليها حناء وشموع وورود، وجاءت من مدينتها جنين شمال الضفة الغربية الى مدينة رام الله وسط الضفة لاستقباله كما العريس في يوم زفافه. جلست العجوز الثمانينية الى جانب الحائط في مقر الرئاسة منتظرة قدومه، والتزمت الصمت. وعندما ألحّ عليها اقاربها بالحديث، قالت انها تشعر انها ستموت قبل ان تراه، وطلبت منهم ان يتركوها تموت بسلام. وأمضى الأسير السعدي 30 عاماً في السجون الاسرائيلية، وشاخت والدته وهي في انتظاره لدرجة باتت معها غير قادرة على تصديق حقيقة الالتقاء به بعد هذه السنين والعقود الطويلة. لكن ما ان رأته قادماً نحوها، حتى شبت على قديمها، واحتضنته طويلاً. واحتشد أكثر من ألفي شخص من أسر ذوي الأسرى والناشطين في ساحة مقر الرئاسة في رام الله الى ما بعد منتصف ليل الثلثاء - الاربعاء لاستقبال الدفعة الثانية من أسرى ما قبل اتفاق اوسلو (خمسة منهم من قطاع غزة، و21 من الضفة). وكان المشترك بين جميع عائلات هؤلاء الأسرى هي طول المدة التي قضوها في السجون الاسرائيلية، والتي جعلت البعض منهم يتشكّك في تحول الحلم الى حقيقة. فمن مدينة بيت لحم جنوب الضفة، قدمت والدة الاسير عيسى عبد ربه على كرسي متحرك للقائه. ومن خلفها سار العديد من أحفادها وهم يغنون ويرقصون فرحاً بعودة عيسى من سجن أمضى فيه 30 عاماً متواصلة. قالت العجوز الثمانينية من على الكرسي المتحرك الذي تستخدمه منذ سنوات بسبب ضعف ساقيها: «أشعر كأني امشي مثل كل هؤلاء الناس، كأني أطير». وكان عيسى اعتقل عام 1984 وحكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة قتل مستوطن. وقالت عائلته ان اطلاق سراحه في اتفاق فلسطيني – اسرائيلي كان الامل الوحيد لهم برؤيته بينهم. ومن قرية عربونة على الحدود الشمالية، قدمت عائلة الأسير عثمان بني حسن المعتقل أيضاً منذ عام 1985. وقالت شقيقته جهاد ان العشرات من ابناء القرية قدموا الى رام الله لاستقباله. وكان عثمان محكوماً ايضاً بالسجن المؤبد لمشاركته في عملية قتل اثنين من المستوطنين قرب جنين. وخلال هذه السنين الطويلة من اعتقاله، توفيت والدته ووالده واثنان من اشقائه. وقالت شقيقته انه لم يكن لدى العائلة أمل آخر بتحرره من السجن سوى عبر اتفاق سياسي، مشيرة الى أن السلطات الاسرائيلية رفضت اطلاق سراحه في الصفقات والاتفاقات السابقة. واضافت ان العائلة تحتفظ بامتنان خاص للرئيس محمود عباس على اصراره على اطلاق جميع اسرى ما قبل اوسلو من دون استثناء في مقابل عودته الى المفاوضات. واستقبل عباس الاسرى المحررين الذين اطلقت اسرائيل سراحهم من سجن عسكري قرب رام الله عند الواحدة من بعد منتصف الليل. ووضع المحررون أكاليل الزهور على ضريح الرئيس ياسر عرفات قبل ان يتوجهوا للقاء ذويهم. عباس يتعهد اطلاق كل الاسرى وقال الرئيس عباس في كلمة مقتضبة امام الاسرى وذويهم: «هذه الفرحة الثانية»، في اشارة الى الدفعة الثانية من اسرى ما قبل اوسلو الذين اطلقت اسرائيل سراحهم. واضاف: «ستكون لنا فرحة ثالثة ورابعة وخامسة عندما تخلى جميع السجون الاسرائيلية من الاسرى». وتعهد العمل على اطلاق جميع الاسرى وعدم التوقيع على اي اتفاق سياسي مع اسرائيل من دون اطلاقهم جميعا. وقال انه تمسك بعودة جميع الاسرى الى بيوتهم، مشيراً الى رفضه عروضاً اسرائيلية تقضي بإبعادهم الى قطاع غزة او الخارج. وفي اليوم الاول من اطلاق سراحهم، مارس المحررون طقوساً حرموا منها عقوداً طويلة. فالمحرر أسرار سمرين طلب من أخيه ان يتجول به في شوارع مدينتي رام الله والبيرة في الصباح الباكر كي يتعرف على المنطقة التي انقطع عنها منذ اعتقاله عام 1991، فيما تناول أسرى آخرون الافطار من خبز أمهاتهم بعدما حرموا من ذلك طويلاً. استقبال الابطال في غزة وفي قطاع غزة، استقبل الآلاف من المواطنين الأسرى الخمسة المحررين الذين يتحدرون من القطاع استقبال الأبطال وبدموع الفرحة والصيحات والزغاريد لدى وصولهم الى حاجز بيت حانون (ايرز). وأمضى المستقبلون ساعات طويلة أمام الحاجز العسكري الاسرائيلي في انتظار السجناء الذين قضى أقل أسير فيهم 19 عاماً في سجون الاحتلال الاسرائيلي. وتغمر السعادة الفلسطينيين عندما يتم اطلاق أي أسير فلسطيني، إذ أن اسرائيل اعتقلت نحو مليون فلسطيني منذ احتلال الضفة وغزة عام 1967، ما يعني أنه تم اعتقال فرد على الاقل من كل أسرة فلسطينية تقريباً. وعبر الأسرى عن فرحتهم بإطلاق الاسرى، لكنهم قالوا إن غصة لا تزال في حلوقهم لأنهم تركوا خلفهم نحو خمسة آلاف أسير، أمضى بعضهم أكثر من 30 عاماً في السجون الاسرائيلية. وكانت اسرائيل أطلقت في 14 أب (أغسطس) الماضي 26 أسيراً في اطار الدفعة الأولى من اتفاق على اطلاق 104 أسرى في مقابل عدم توجه منظمة التحرير الفلسطينية الى الأممالمتحدة وعدم الانضمام الى منظماتها، وفق ما كشفت مصادر فلسطينية موثوقة ل «الحياة» قبل نحو شهرين. وعزز اطلاق دفعتين من الأسرى (52 أسيراً) خلال الأشهر الثلاثة الماضية من مكانة الرئيس محمود عباس نظراً الى حساسية قضيتهم في صفوف الفلسطينيين، على رغم اعتراض غالبية الفصائل على استئناف المفاوضات مع اسرائيل. ورحب كل الفصائل الوطنية والاسلامية في بيانات صحافية منفصلة بإطلاق الأسرى ال26. كما رحب وزير شؤون الأسرى والمحررين في الحكومة التي تقودها حركة «حماس» عطالله أبو السبح بإطلاقهم، محذراً من أن تكون صفقات اطلاق الأسرى في مقابل توسيع المستوطنات في الضفة الغربية والقدس. وقدر عدد الفلسطينيين الذين اعتقلتهم اسرائيل منذ عام 1967 حتى اليوم بنحو «مليون أسير، أي ما يعادل خُمس الشعب الفلسطيني، فيما يبلغ عددهم الآن خمسة آلاف، ولا تتم معاملتهم وفق الاتفاقات الدولية، مثل اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة، وهم يعانون من سوء التغذية وسوء العلاج والحرمان من الرعاية الصحية وانتشار الامراض. وأشار الى أن «هناك نحو 1200 أسير يعانون من الأمراض، من بينها السرطان، ونحو 60 أسيراً في العزل الفردي، كل واحد منهم في زنزانة لا تتجاوز مساحتها 3 أمتار مربعة بغية تحطيم إرادته». ودعا ابو السبح وزير شؤون الأسرى والمحررين في السلطة الفلسطينية عيسى قراقع الى زيارة القطاع للتعاون والتنسيق في القضايا والأمور المتعلقة بالأسرى نظراً لأن اسرائيل تمنعه من السفر الى الضفة للغرض نفسه.