لم تعد الأزمة السورية حكراً على أصحابها، ولم تعد محصورة جغرافياً، بسورية وجيرانها، إنها تمتد عبر البحار لتصل إلى الطرف الأوروبي، في شكل شرعي أو غير شرعي أحياناً. لقد أصبحت عابرة للقارات، ولم يعد إنقاذ بعض هنا أو هناك يكفي بالغرض. فغرق القارب الذي يقلّ عدداً من السوريين قبالة السواحل الإيطالية، يعود ليحيي الملف الذي لم يغلق أبداً، وهو اللاجئون السوريون. فقد نقلت صور حية لسوريين تمكنوا من الوصول إلى الجزيرة الإيطالية، ويفترشون حالياً الأرض وينامون بين الشجر. والجزيرة التي حلوا عليها، أقل من أن تحل مشكلة من هذا النوع. من جهة أخرى، يحاول سوريون كثر وصلوا إلى بلدان أوروبية مثل رومانيا أو هنغاريا أو حتى إسبانيا الحصول على لجوء في ألمانيا، معتقدين أن كلمة أنا سوري، هي العصا السحرية لبلوغ مرادهم. يقول زيدان أحد الشبان الذين ألتقتهم «الحياة»: «حصلت على تأشيرة دخول إلى إسبانيا، ضمن ورشة عمل، ومن هناك تمكنت من الوصول إلى ألمانيا، وكوني سورياً أعتقد أن الأمور سهلة». «كوني سورياً»، جملة بدأت تستخدم بكثرة بين اللاجئين أو طالبي اللجوء، لكنها لا تلغي القوانين المعتمدة في أوروبا، ضمن نطاق ال «شينغن». فالقانون صريح ويصعب التلاعب به، فمن حصل على تأشيرة شينغن من إسبانيا مثلاً عليه أن يبقى هناك، يحق له زيارة دول أوروبية لكن لا يحق له الحصول على لجوء إلا من الدولة التي منحته التأشيرة، فهي المخولة منحه صفة لاجئ. عائلة سورية أخرى مؤلفة من أب وأم وولدين، حصلوا على حق اللجوء في رومانيا، لكنهم يأملون بحياة أفضل في ألمانيا، لذا قدموا إليها، لعلهم يوفقون في الحصول على حق اللجوء فيها، أو أن يغيروا من مكان لجوئهم، وبالطبع أعادتهم السلطات الألمانية، إلى رومانيا. والحالات المشابهة كثيرة حيث تنقص السوريين الراغبين في اللجوء معلومات صحيحة وحقائق أكيدة. ويعتقد بعض آخر أنه بانتمائه إلى أحدى الأقليات ستكون الأمور أيسر، لكن عند مقابلتنا لاجئين سوريين آتين حديثاً إلى ألمانيا، من مخيمات الأردن ولبنان وتركيا، يتضح سريعاً أن هذا ليس عاملاً مساعداً. فكثيرات هن المحجبات ومنهن المنقبات أيضاً، ووفق متطلعين، أخذت اعتبارات عدة عند انتقاء اللاجئين السوريين، لعل أهمها مهنة الرجل أو المرأة وحاجة ألمانيا إلى هذا النوع من المهن، في حال عمل اللاجئ في المستقبل. وفي النهاية قد يلعب عنصر الانتماء إلى أقلية دوراً ولكنه ليس الأهم. سارة قدمت بطريقة غير شرعية إلى ألمانيا، رفضت الحديث عن الطرق التي سلكتها حتى وصولها، واختصرتها بالقول: «عصبوا عيني من تركيا إلى ألمانيا». وتزمع التقدّم بطلب لجوء سياسي، ولكنها لا تعلم أبداً، ما يتطلبه الأمر من إجراءات. وتوضح: «نصحوني بذلك لأن ميزاته أفضل من التقدّم بطلب لجوء إنساني. لكني لا أعلم ما هي الأوراق المطلوبة أو ماذا علي أن أقول. أفكر في استشارة محام ألماني خبير أو توكيله، لكن الأمر مكلف وأنا لا أحمل مالاً كافياً». يغرّر وسطاء غير شرعيين بالسوريين الذين يوصلونهم إلى الحدود الألمانية. ولأن الغريق يتعلق بقشة كما يقال يعتمد كثر هذه الوسيلة، ويتخيلون أن حياة رغيدة بانتظارهم منذ لحظة وصولهم، ما قد يدفع كثيرين إلى مغامرة شبيهة بما حدث مع الهاربين في زوارق خشبية إلى إيطاليا. تقول جدة سورية حاورتها صحيفة ألمانية في مصر: «لم نعد نخاف من شيء، تدمر منزلنا في حمص، وتمكنا من الفرار، سنستأجر قارباً حال توافر المالي الكافي، وسنصل شواطئ إيطاليا، ومنها سنسافر إلى ألمانيا، حيث سنعامل بكرامة وإنسانية». لكن واقع الأمر ليس تماماً على هذا النحو، والمعاملة الكريمة التي يتلقاها السوري من الموظفين الألمان العاملين في شؤون اللاجئين، ليست هي كل الحياة، بل هي في شكل أدق جزء بسيط، أو تفصيل يومي، حيث يقيم مقدمو طلبات اللجوء، وريثما تبت المحكمة في أمرهم، يعيشون أوضاعاً صعبة، في مهاجع مشتركة مع أشخاص من جنسيات أخرى، ما يحتمّ نوعاً من التواصل غير المريح، في أحيان كثيرة. ولعل شهادة الشاب عمر خير دليل، إذ يعيش في أحد هذه المهاجع في كولن مع عشرة مهاجرين أفارقة، «أسمع منهم كلاماً جارحاً وأتحمّل أفعالهم المزعجة. فمثلاً حال وصولي إلى المهجع، يبدأون الطرق والغناء، والرقص على طريقة الزنوج، وعندما يأتي أي شخص جديد، إذا كان من أفريقيا، فهو مرحب به، وإلا فيستهدفونه بالإزعاج والمضايقة. لكن علي أن أتحمل، لعلي في النهاية أحصل على حق اللجوء». ولأن الإقامة قد تطول سنوات في هذه المهاجع، أضرب سوريون عن الطعام احتجاجاً على سوء المعاملة. كما يشتكي آخرون من تعصب أفراد الجنسيات العربية الأخرى التي يلتقونها، وإن كان الأذى يقتصر على المهاترات الكلامية كما قالت سيدة سورية قدمت حديثاً إلى ألمانيا: «يقول لي المصريون، أنتم لستم مثلنا، ما جرى عندكم ليس ثورة، أنها حركات تطرف. أو تعلّق أخرى، ماذا سيحل بك إذا رفضوا طلب لجوئك، إلى أي مخيم ستعودين؟». وتضيف أخرى: «يأتون لاجئين مثل أحوالي، أملاً بحياة كريمة في ألمانيا. لكنهم يحافظون على عنصريتهم وتعصبهم». وبعضهم، ممن شاهد أحداثاً دامية في سورية، سرعان ما تبدو عليه إشارات وعلامات تستدعي العلاج. هذا ما أكده المحامي حسن محمد أحد العاملين في مجال المهاجرين: «سنعرض عليهم أن يعالجوا نفسياً، أو أن يتحدثوا إلى خبير نفسي عما جرى معهم، فبعضهم يبدي ردود فعل عنيفة، أو يصرخ لأتفه الأسباب، كما يتشكك بالجميع». أما الشباب الذين يتم قبولهم ويحصلون على منح دراسية لمدة معينة، فيصدم كثر منهم بوتيرة الحياة البطيئة وأحياناً المملة جداً، وفق تعبير أحدهم، إذ يقطنون في مناطق غير مزدحمة ما يبعث في نفوسهم الضجر وأحياناً الندم. فيعانون وحدة قاتلة، لم يحسبوا لها حساباً. كثيرة هي الأمور التي لا يحسب لها السوري حساباً، عندما يريد أن ينقذ حياته أو حياة أهله. لكن الصعوبات تبدأ بالظهور، ريثما يحصل على الأمان الذي كان يحلم به، ما يجعل الخطوة التالية المتمثلة بالإندماج بالمجتمع الألماني، مهمة صعبة.