تناولت حلقة الأمس حالة العراقيين المسيحيين اللاجئين إلى سورية التي تتصدر بلدان المنطقة في استقبال اللاجئين والتكفل برعايتهم. وتم التركيز على الأزمات الناتجة من ظروف سكنهم والجمعيات التي تتابع شؤونهم بانتظار تأمين هجرتهم النهائية إلى بلدان أخرى. حلقة اليوم من لبنان، ترصد حالة أقلية دينية لجأت إلى ما يعرف ببلد الأقليات في المنطقة. لا الظروف السياسية المتقلبة ولا الضائقة الاقتصادية أو حتى احتمالات حرب أهلية وأخرى إسرائيلية وقفت أمام توافد اللاجئين العراقيين إلى لبنان. فبالنسبة إليهم، مهما اهتزت الأوضاع هنا تبقى أهدأ مما هي عليه في العراق، خصوصاً بالنسبة للمسيحيين الذين يشكلون 40 في المئة من مجموع اللاجئين، وهي النسبة الأعلى بين دول الجوار بحسب إحصاءات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. وإذا كانت دوافع اجتماعية تقف في شكل أساسي وراء توجه اللاجئين العراقيين الى الأردن، وأخرى اقتصادية وراء توافدهم إلى سورية، يشكل المناخ السياسي والسياق التاريخي العام للبنان نقطة جذب أساسية للمسيحيين بينهم على وجه الخصوص. وليس ذلك من قبيل الصدفة، فلبنان هو تعريفاً بلد الأقليات في المنطقة حيث تعيش 18 طائفة مسجلة رسمياً، والبلد الوحيد بين «أشقائه العرب» الذي يتبوأ فيه مسيحي سدة الرئاسة ويتمتع فيه المسيحيون عموماً بنفوذ سياسي يحفظه الدستور، ناهيك عن سلطة اجتماعية واقتصادية راسخة على رغم كونهم أقلية من بين تلك الأقليات تتضاءل يوماً بعد يوم. فهؤلاء الذين هربوا من العراق لشعورهم بأن لا مكان لهم وسط التقاسم الطائفي للسلطة، وجدوا في لبنان ملاذاً آمناً وإن معنوياً تشكلت فيه المحاصصة بهدف حماية مصالحهم وضمان تمثيل سياسي لهم يفوق وزنهم الديموغرافي. عدا عن أن مسيحيي لبنان، وإن خسروا بعض صلاحياتهم السياسية بعد انتهاء الحرب الأهلية وعقد اتفاق الطائف، يبقى أنهم عملياً الوحيدون في محيطهم العربي الذين حملوا السلاح للحفاظ على وجودهم. وقد لا تخطر تلك الأمور كلها في ذهن الهارب من الموت المحتم في مدن العراق والباحث عن بر أمان له ولأسرته، لكنها حسابات موجودة وحقيقة ملموسة في خلفية اختيار لبنان بلداً للجوء ومنصة انطلاق الى البلد الثالث فيما هو لا يعترف بهم أصلاً ولا يملك إطاراً قانونياً لحمايتهم. وعملياً مهما تنوعت أطياف المسيحيين العراقيين النازحين إلى لبنان، من كلدانيين أو أشوريين أو سريان وغيرهم، يمكن لكل منهم أن يجد هنا امتداداً مباشراً له من حي، وكنيسة وجمعية أهلية ترعاه من باب الأخوة في الدين وليس كما في سورية أو الأردن من منطلق الواجب القومي أو القرار الحكومي. فهنا لا تماسك حكومياً يضع خططاً واضحة تحمي المجموعات أو الأفراد ويملي على الكنائس شروط نشاطها، بل ترك الغياب الرسمي شبه المطلق المجال واسعاً أمام نشاط القطاع الأهلي والخاص كما في كل شيء وليس في ما يتعلق بقضية اللاجئين فحسب. ولعل التوافق الرسمي الوحيد في هذه المسألة هو التذكير الدائم بأن لبنان «ليس بلد لجوء»، وبالتالي كان ولا يزال خارج مجموعة الدول التي وقعت معاهدات جنيف في 1951 الخاصة باللاجئين أو البروتوكولات المتفرعة عنها والتي أقرّت في 1967. وإذا كان الأردن قد وفق بين قطاعيه العام والخاص في حماية لاجئيه، وسورية ساوتهم بمواطنيها من حيث التكفل التام والرعاية الاجتماعية بإشراف حكومي، كذلك جعلهم لبنان الرسمي مثل مواطنيه محرومين إلا من تقديمات الحد الأدنى مع شروط أقسى وفرص أقل. وانسحبت بالتالي قدرة اللبناني على استحداث البدائل الحياتية على اللاجئين رافعة كلفة لجوئهم في بلد يمنع عنهم حق العمل ويتشدد في تطبيقه. فأينما كانت منطقة سكنهم، سواء غنية أو فقيرة، يبقى أن للكهرباء التي تنقطع باستمرار ويعوضها الاشتراك بالمولد الخاص فاتورة تدفع مرتين وتبلغ بأقل تقدير نحو 100 دولار. كذلك المياه التي تشح صيفاً تستبدل بخزانات تفرغ مياهاً مالحة مقابل نحو 60 دولاراً، يضاف إلى ذلك طبعاً عدم دعم المحروقات شتاء وغياب الرقابة على أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية وأولها ربطة الخبز مثلاً. وإذا كانت تلك مبالغ رمزية بالنسبة للأثرياء من العراقيين القاطنين في مناطق الحمرا والحازمية وغيرها من الأحياء الراقية، يبقى أنها هم فعلي يضاف إلى هموم الأقل حظاً. فتلك وغيرها أعباء تثقل كاهل أسر جاءت إلى لبنان متوقعة بعض الغلاء المعيشي لكنها لم تحسب حساباً للأكلاف الجانبية التي لا تعتبر رفاهية بل ضرورة ملحة. وإذ يتوزع اللاجئون على المناطق المحيطة ببيروت بحسب انتماءاتهم الطائفية، فيذهب المسلمون إلى أحياء مثل النبعة وصبرا بعدما ارتفعت أسعار العقارات في الضاحية الجنوبية على اثر حرب تموز (يوليو) 2006، يتركز المسيحيون في حزام الضاحية الشمالية حيث الغالبية مسيحية لكن مطعمة بطوائف وجنسيات أخرى. فحي الزعاترة المحاذي لمنطقة الفنار، والذي اتخذ اسمه من آل زعيتر المتحدرين أصلاً من البقاع وهم من الطائفة الشيعية يختلط اليوم بما يطلق عليه حي السريان حيث يتجمع العراقيون، وتتجاور فيه «حسينية الإمام علي» مع مزارات القديسين تنتصب عند مداخل الابنية، كما يتجاور السكان مرغمين بغير انسجام. وتتشكل الضاحية المسيحية لبيروت عموماً من أبناء الأطراف الذين تدرجوا بالنزول الى المدينة وأقاموا صناعات كبيرة أو صغيرة على ضفافها. وهؤلاء غالباً ينتمون إلى قرى الجنوب أو الشمال الأبعد من الأرياف المجاورة للمدينة مثل كسروان أو قضائي جبيل والبترون. وتعتبر تلك الأحياء مجتمعة منطقة صناعية لكونها تضم مصنعاً للصناعات الورقية، وآخر للعصائر والمواد الغذائية، ومعمل سكر وورش ميكانيك وأثاث وبعض الصناعات الكيميائية من مواد تنظيف وطلاء جدران وأدوية وغيرها. ويتشكل نسيجها الاجتماعي من اليد العاملة والحرفيين وصغار التجار الذين امتصتهم تلك المصالح وتتنوع خلفياتهم ومشاربهم وحتى جنسياتهم. فبين أحياء الدكوانة ونهر الموت صعوداً باتجاه الفنار يقطن ويعمل سوريون ومصريون وسودانيون أو ينتقلون منها إلى العمل في مناطق أخرى، كما تجد جاليات العمالة المنزلية من الحبشة وسريلانكا وبنغلادش وغيرها مساكن رخيصة وأسواقاً وأماكن تجمع ودور عبادة. وإلى ذلك تشكل كليات الجامعة اللبنانية بفرعها الثاني، الذي استحدث خلال الحرب بهدف تعليم أبناء المناطق الشرقية (أي المسيحية)، تجمعاً سكانياً واجتماعياً من نوع آخر يربطه بتلك المجموعات محدودية القدرات الاقتصادية. ووسط تلك الفسيفساء جاء المسيحيون العراقيون لوناً إضافياً لم ينتبه إليه كثيرون من غير المهتمين بشؤونهم في شكل مباشر. فالاستدلال إلى منطقتهم ليس بالمهمة السهلة وسط تجمعات هؤلاء الغرباء، كما أن كنائسهم تفتح في أوقات محددة وليس كما في عمان أو دمشق تستقبلهم على مدار الساعة. وهم إذ ذاك متروكون لحالهم يتدبرون أمورهم بما تيسر من مساعدات مفوضية اللاجئين و5 جمعيات خيرية تمولها وتطبق برامجها ومنها على سبيل المثال لا الحصر جمعية «كاريتاس» ومؤسسة «عامل». وتقدم تلك الجمعيات المساعدات العينية والمواد التموينية كما توفر بعض الرعاية الصحية في مستوصفات تابعة لها أو متعاونة معها كما تعمل جمعية «ريستارت» أحد الشركاء التنفيذيين للمفوضية على التأهيل النفسي لضحايا العنف والتعذيب وهي إضافة نوعية بالنسبة للخدمات في دول الجوار لكونها تقوم على برنامج خاص ومستقل وليس ضمن مشاريع خدماتية أخرى. وكان من الإنجازات التي تحسب للحكومة اللبنانية أنها وافقت في 2008 على فتح أبواب المدارس الرسمية أمام التلامذة العراقيين بما يبعد عنهم ولو جزئياً شبح الأمية والعمالة المبكرة، وهو قرار دخل حيز التنفيذ في السنة الدراسية 2009-2010. لكن تكفل التعليم لا يحمل معه التكفل بالزي المدرسي والكتب والقرطاسية وبدل النقل، وهي تؤمنها في شكل جزئي المساعدات التي تمنح للاجئين، فيما الجزء الآخر متروك على عاتقهم. لذا ترافق هذا القرار بحملات من المفوضية لتشجيع الأهالي على إدخال أولادهم إلى المدارس وإقناعهم بإبعادهم عن سوق العمل مقابل تقديم منح دراسية ومساعدات تحفيزية. وتلعب بعض المدارس شبه المجانية التابعة للإرساليات ورهبنات طوائف معينة دوراً في استيعاب تلامذة الطائفة فتأخذهم على عاتقها بشيء من التكافل الاجتماعي وهو أمر يسير نسبياً بالنظر إلى عدد العراقيين عموماً والذي يبلغ نحو 8 آلاف، أقل من نصفهم مسيحيون. وتتأتى غالبية المشكلات التي تواجه اللاجئين في لبنان من كونهم لا يتمتعون بصفة لاجئ مع ما تحمله تلك الصفة من واجبات حماية من قبل الدولة المضيفة. وباستثناء اللاجئين الفلسطينيين الذين تتابع منظمة أونروا أوضاعهم بطريقة مستقلة، لا مكان للجوء في لبنان. وفي ظل غياب أي إطار قانوني ينظم حياة اللاجئين أو يعترف بهم، يخضع أي وافد جديد سائحاً كان أو عاملاً أو نازحاً كما في هذه الحالة، لقانون 1962 الذي يحدد كيفية دخول كل الأجانب إلى الأراضي اللبنانية وشروط إقامتهم عليها ومن ضمنهم طالبو اللجوء الإنساني أو السياسي. ومن نتائج ذلك منعهم منعاً كلياً من العمل، ومن أي تقدمة اجتماعية، بالإضافة إلى إمكانية الملاحقة القانونية والسجن والترحيل بحق كل من يتخطى فترة إقامته الشرعية التي تحددت أخيراً بسنة واحدة قابلة للتجديد بشروط. وتقول ممثلة المفوضية العليا للاجئين في بيروت نينيت كيلي: «أكثر ما يعانيه اللاجئون في لبنان هو عدم الاعتراف بهم وغياب إطار قانوني يحميهم. فهم يدخلون بتأشيرة لكنهم عملياً يضطرون الى تخطي فترتها الزمنية فتصبح إقامتهم في البلد غير شرعية بموجب قانون الهجرة ما يعرضهم للمطاردة». ومن أشكال تلك المطاردة أن يتمكن أي شرطي توقيف الوافد وسؤاله عن أوراقه وإلقاء القبض عليه إذا لم تستوف الشروط ثم ترحيله نهائياً من البلد، ما يجعل مجرد الخروج إلى السوق مهمة شبه مستحيلة، خصوصاً في بيئات تكثر فيها الوشايات والعمل مع الأجهزة الأمنية. وإذ نجحت مساعي المفوضية بتمديد مدة الإقامة من 3 أشهر إلى سنة قابلة للتجديد، انعكست ارتياحاً على اللاجئين، إلا أن جهدها وجزءاً غير قليل من موازنتها ينصبان في تخليص أوراق وإخراج موقوفين من سجون ونظارات لا تتوافر فيها أدنى شروط الاحتجاز وهو واقع ينطبق على الرجال كما النساء. وفي ظروف قاسية كهذه، تترافق مع تضاؤل الموارد المالية كلما طالت فترة اللجوء، يصبح العمل حاجة ملحة والهجرة حاجة أكثر إلحاحاً ما يسهل بدوره الاستغلال المادي والمعنوي للاجئين. فهم يعملون سراً في المصانع القريبة، والمخابز ومكتبات الجامعة ومطاعمها مقابل رواتب شهرية لا تتجاوز في أفضل الحالات 250 دولاراً بالكاد تغطي إيجار منزل مكون من غرفة ومنتفعاتها في تلك المنطقة. والعمل سراً هنا، ليس كالعمل سراً في سورية أو الأردن حيث غض طرف رسمي وحرية حركة كبيرة. ففي السوق اللبنانية الضيقة يتنافس هؤلاء مع عمالة وافدة كثيرة العدد ومتنوعة الأجناس ورخيصة الأثمان ومنها أيضاً العمالة السورية والمصرية. وتقول كيلي: «من اللافت فعلاً في بلد يكاد لا يخلو فيه منزل من عاملة أجنبية، حرمان فئات محتاجة من كسب قوتها بطريقة شرعية وإن بأعمال بسيطة». ويقيم 50 في المئة من العراقيين في لبنان مع عائلاتهم في وقت تعيل النساء 10 في المئة منهم، و10 في المئة آخرون هم من ذوي الاحتياجات الخاصة بحسب أرقام المفوضية. وهؤلاء يتحدرون نزولاً في سلم القدرة المالية فحتى المهن المتواضعة من عامل محطة وقود أو مساعد حرفي أو ميكانيكي وغيرها ممنوعة عنهم. أما قيادة سيارة الأجرة، المتاحة في غير لبنان للعمالة الوافدة فهي بموجب القانون رفاه يحرم منه غير اللبناني. وفي بلد تعتبر صناعة السياحة والترفيه راسخة فيه، ومصدراً أساسياً للدخل القومي، يستقطب هذا القطاع أيضاً عمالة عراقية غير قليلة تمنح حامل لقب «فنان» بعض التسهيلات، تلك التي لا تطلب منهم أوراقاً رسمية ولا تسألهم إن كانوا لاجئين أو مقيمين. وعلى طول الطريق الساحلية الممتدة باتجاه منطقة جونية والمعاملتين، مطاعم ونواد ليلية أدرجت «ليالي بغداد» في برامجها الغنائية. وإذا كان هؤلاء الموسيقيون والراقصون لا يعملون بالسر لكون صورهم منتشرة على لوائح إعلانية كبيرة على الطرقات، إلا أن غيرهم يعمل في صناعة الترفيه الإعلامي بشروط وأجور مخزية. ذاك أن الإنتاج التلفزيوني الذي يستدعي جمهوراً يصفق ويقف ويجلس كلما طلب المخرج ذلك، يستقدم جنوده من بين هؤلاء اللاجئين بغض النظر عن إمكاناتهم المهنية أو مؤهلاتهم العلمية. ومن يعمل «جمهوراً» في برامج المسابقات وغيرها يتقاضى 10 آلاف ليرة لبنانية (6 دولار) مقابل ست ساعات عمل. إنه عمل مضن يمتد حتى وقت متأخر من الليل أحياناً ويتطلب الوقوف والجلوس مراراً والتصفيق والصياح بحسب ما يقتضيه كل برنامج. كما يفرض التعاقد مع الشركة التي تؤمن «الجمهور» لشركة الإنتاج المظهر الحسن والمتأنق والقدرة على العمل ورديتين في اليوم أحياناً بحسب حجز الاستوديوات. وقد يسأل سائل ما الذي يأتي بهؤلاء اللاجئين إلى لبنان في ظل كل تلك العوامل الطاردة عوضاً عن التوجه إلى سورية أو الأردن حيث تكلفة الحياة أرخص وظروف اللجوء أفضل، فتأتي الإجابة إن العدد القليل للاجئين في لبنان، ونسبة المسيحيين المرتفعة بينهم تسهل إعادة توطينهم في بلدان أخرى. فضغط الطلبات المرفوعة للسفارات الأجنبية في بيروت أقل منه في دمشق وعمان، والعلاقة مع المفوضية والعاملين معها أسهل كما أن إمكانية الاستفادة من خدماتها أكبر، هذا والمناخ العام في لبنان مريح لا لكونه رعوياً حمائياً بل لكونه رخواً يترك العراقي وشأنه. ولعل من نتائج تلك المسافة الاجتماعية المتبادلة بين العراقيين ومحيطهم اللبناني في تلك الضاحية أنهم هنا ما زالوا محافظين على لهجتهم العراقية ولم يحولوها الى لهجة لبنانية كاملة كما في سورية والأردن حيث يصعب أحياناً تمييز العراقي عن ابن البلد. وليس ذلك من قبيل التمييز الإيجابي نحوهم أو التسامح مع مكوناتهم الثقافية، بل بالعكس إنه أحد أوجه تهميش الوعي المسيحي اللبناني لكل ما عداه تماماً كما هي الحال مع الفلسطينيين والأرمن والسودانيين وغيرهم. وهو تهميش لا تخففه أخوة في الدين أو الإيمان كما هي حال المسلمين، ومن أبسط الأمثلة على ذلك مخيم للاجئين الفلسطينيين المسيحيين في تلك الناحية لا يأتي أحد على ذكره ويكاد ينسى كلياً كأنه عار المنطقة وسر يطرده الأهالي من أذهانهم. واشتكت سيدات عراقيات التقتهم «الحياة» من ممارسات تمييزية ضدهن وضد أطفالهن في المدرسة أو الحي حيث يتفادى الأولاد الآخرون اللعب معهم ويتندرون على لكنتهم بما يزيد الهوة بين البيئتين. لكن ذلك كله يهون أمام فرص النجاة التي تمثلها الهجرة إلى بلد ثالث أو احتمالات ضئيلة لكن ممكنة بالتجنيس. فصحيح أن لبنان يصر على عدم رفضه اللاجئين واستقبالهم من أي دين أو جنسية كانوا، إلا أن التجربة أثبتت أنه كان ولا يزال ملجأ لأقليات المنطقة المضطهدة أفراداً كانوا أو جماعات. فقد سمح جو الحرية العام باستقبال مثقفي العالم العربي وكتابه ومناضليه حين نبذتهم دولهم، وإذا استثنينا توافد اليهود العراقيين أنفسهم إليه بعد مطاردتهم أواسط الأربعينات، وبقائهم فيه آمنين حتى عشية الحرب الأهلية اللبنانية، تم تجنيس دفعات اللاجئين الأرمن وغيرهم من المسيحيين الهاربين من سورية ومصر وحتى فلسطين بكثير من الانتقائية. لذا قد لا يبدو ضرباً من الجنون وضع احتمالات من هذا النوع، وإن كانت مؤجلة لمرحلة لاحقة وبعيدة. وتقول كيلي: «الحكومة اللبنانية كررت لنا مراراً أنها لم ولن تكون بلد لجوء موقت أو دائم ولا يمكن للمفوضية أن تتحدث بالنيابة عنها. لذا نحن نركز في الوقت الحالي على تحسين حياة اللاجئين ريثما يعاد توطينهم». ولكن، ومقابل الخطاب الرسمي لم تستبعد مصادر في مفوضية دمشق كلياً سيناريواً مؤجلاً بطرح مسألة التوطين في بلدان اللجوء الأولى. فبحسب تلك المصادر «إذا استتب الوضع في العراق وعاد من عاد، واستقبلت بلدان التوطين الغربية من استقبلت، تبقى الشريحة التي رفضتها السفارات وتخاف من العودة الى العراق لأنه ما عاد شيء يربطها فيه... هؤلاء من يجب التفكير فيهم ملياً». - إلى حي «الزعاترة» الفقير... بدلاً من حي السعدون