لكل لاجئ موضع ألم مزمن، ولكل مهاجر حكاية يصعب اختصارها. يجمعهم وطن ابتعدوا عنه حالمين بوطن أفضل. لكن سرعان ما يكتشفون أن الوطن الجديد ليس الجنة التي ألهبت الخيال ودفعت للرحيل، فالوطن الجديد له شروطه وظروفه وتحدياته، التي تبدأ باللغة ولا تنتهي باحترام قوانين وتفاصيل لم يعتدها المهاجر، وربما لم يسمع أو يقرأ عنها. في المدرسة الألمانية، حيث تنتظم المهاجرات لتعلّم اللغة، تجلس فتاة سورية كردية آتية من سورية. لا تجيد الكتابة بالعربية، فكيف لها أن تتعلم لغة بصعوبة الألمانية؟ اسمها نجاة، وتصلح حكايتها لتكون حكاية لآلاف الفتيات العربيات اللاجئات والمهاجرات. تعيش نجاة مراهقة متعبة بين بيئة محافظة تسعى لأن تطوّقها في كنفها، وبلد يؤمن بالحرية كمبدأ حياة. بكل ما تحمل كلمة حرية من معانٍ ومظاهر. تقول نجاة: «في البداية كان يربكني حجابي. وكنت أشعر من نظرات الناس بأنهم لا يتقبلونني». وتضيف: «بالطبع الناس هنا شديدو الحذر، فلا يعبّرون عن ذلك بجملة أو عبارة عنصرية، ومع هذا اعتدت الأمر، وربما اعتادوا هم أيضاً». وتستدرك: «لكن حديثاً أمر آخر بدأ يربك أيامي، فعندما أعرّف عن نفسي بأني سورية، أشعر بالخجل والألم معاً، فغالباً ما يصرخ الألماني في وجهي قائلاً: أنت من البلد الذي يذبحون فيه الأطفال... أصبح لي هوية جديدة عنوانها الذبح». شهدت الفترة الأخيرة تزايداً في عدد طالبي اللجوء من السوريين، فخلال شهر آب (أغسطس) الماضي، احتل السوريون المرتبة الأولى بين مجموع طالبي حق اللجوء، وفق تقرير صادر حديثاً عن دائرة الهجرة والجوازات في ألمانيا. اللغة «غير ضرورية»؟ في بلد يعيش تحت لواء الانفتاح، يتجمّع المهاجرون في مكان واحد إلى جانب بعضهم بعضاً وحديثهم في شكل دائم بلغتهم الأم، ما يخلق صورة عنوانها «نحن لا نريدكم»، حتى وإن كانت الحقيقة مختلفة. نماذج متعددة تحافظ على «خصوصيتها» من دون الاندماج، وتقول سيدة تعيش في حي رويته في برلين، بفرح: «أنا هنا منذ عشرين سنة، ولم أضطر إلى تعلم الألمانية». وتوضح: «منذ سنين أشتري حاجاتي من الخضار والأرز والخبز واللحم الحلال من جارنا الذي هرب معنا إلى هنا، وجيراني وأقاربي من حولي، فلماذا أتعلم اللغة وأتعب نفسي؟». من حق تلك السيدة أن تحرص على شراء اللحم الحلال، ولكن عدم قدرتها على الحديث باللغة الألمانية بعد عشرين عاماً من الإقامة في المانيا فهو خيار، «ليس بالضرورة الأفضل»، يقول أحد جيرانها الألمان. ومن الطبيعي ألّا يستطيع المهاجر الانسلاخ عن جذوره إلّا في ما ندر، ولكن في الوقت نفسه يصعب عليه البقاء بحلّته «القديمة التي وصل بها، والاندماج يمكن أن يكون الخيار الوسطي»، يضيف الجار نفسه مفضلاً عدم ذكر اسمه. وموضوع الاندماج مشكلة شديدة التعقيد، متعدّدة الجوانب، أول خطواتها، تعلّم اللغة وقد تكون الثانية تقبل الغير. شادية أبو حمدان، ناشطة في مجال الاندماج، تعمل في مدرسة ابتدائية في برلين، تقول: «لا يمكن أن يتحقق الاندماج من طرف واحد، ولا تحكمه جغرافية المكان... يجب أن تكون عملية الاندماج مزدوجة، وعلى الطرفين (المهاجر والمواطن الألماني) العمل معاً لتعزيزها». وتضيف: «لعل التقارب يبدأ عندما يتعلم العربي اللغة في شكل جيد، ومن ثم يسعى إلى العمل. وعلى الألماني أن يقترب خطوة، فيبدأ بتقبل مظاهر التدين، كجزء من الحرية الشخصية، فيحاول ألّا يجعلها حاجزاً بينه وبين المهاجر»، معتبرة أنها طريقة لتقصير المسافة بين الطرفين. ويعقّب على كلامها رجل ألماني بالقول: «الأمر أكثر بساطة، فعلى الأقلية أن تندمج بالأكثرية وليس المطلوب العكس»، ويوضح: «إذا ذهبتُ إلى أميركا، ليس لي القوة ولا السلطة على تغيير المجتمع الأميركي ليصبح شبيهاً بألمانيا». ويتساءل: «لماذا أذهب إليه إذا كنت أريده نسخة عن بلدي؟» ويضيف: «حقوق الأقليات مصانة في ألمانيا بموجب الدستور، فيمكن أن يصل إلى البرلمان أي ألماني من أصول عربية أو غيرها... لكن، في البداية عليه أن يتعلم اللغة!». يكرر كثيرون من الألمان أن لا مشكلة لديهم مع أي وافد مهاجراً كان أم لاجئاً أو طالب علم أو عمل، ومنذ بداية هذا العام وحتى نهاية شهر آب، شكّل الأفغان اللاجئون في ألمانيا 14 في المئة من مجموع المهاجرين، أي النسبة الأكبر تلاهم العراقيون، ثم السوريون، فالصرب والإيرانيون، ثم الباكستانيون بينما احتل الأتراك المرتبة الأخيرة، وزادت نسبة طالبي اللجوء عن السنة الماضية حوالى 17 في المئة. ولكن الحكاية لا تنتهي عند الاندماج واللغة، فالتظاهرة التي قام بها اللاجئون في برلين أخيراً تلخّص نوعاً آخر من المشكلات التي يعاني منها اللاجئ أو المهاجر. فاللاجئون معترضون على عدم قدرتهم على العمل وعدم قدرتهم على تغير مكان إقامتهم. ومَن حصل منهم على حق اللجوء في برلين عليه أن يبقى مقيماً فيها، وفي حين يرى كثيرون من اللاجئين في هذا الإجراء تقييداً للحرية، يجد فيه المواطن الألماني تنظيماً لوضع الأجانب، وتقصيراً في معرفة المهاجر أو اللاجئ للقانون، فحماية اللاجئ وتأمين راتب له وحياة كريمة تنص عليه اتفاقية جنيف. وحصول اللاجئ على شهادة بالدرجة «بي اينس» في اللغة، يمكنه من العمل، لكن ضمن شروط قانونية، أما المهاجر فله وضع آخر، والذي أتى بعقد عمل له وضع مختلف، وقد لا يختلف واقع الهارب من حرب، عن وضع المقبل من أفريقيا مثلاً بين هذه الأمور في البداية. لكن، بعد أن يحصل على حق الإقامة تبدأ مشكلات أخرى بالظهور، ويرى الكثير من الألمان أن هروب الأجانب من بلدان لا يحكمها القانون ولا تتمتع بالحرية، يجعل من الصعب عليهم فهم الحرية في دولة قوامها القانون. غرب ألمانيا أكثر تفهماً تقول السيدة لايزون كوتسولينا، العاملة في أحد مكاتب الاندماج: «موجة الهجرة إلى ألمانيا بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، وفي شكل أساسي استقبل غرب ألمانيا الكثير من المهاجرين من إيطاليا، اليونان وتركيا، ذلك لأن ألمانيا في ذلك الحين كانت في حاجة إلى الرجال، بعد أن فقدت الكثير منهم خلال الحرب، لذا اعتاد الناس في غرب ألمانيا على وجود الأجانب، وتطورت أساليب العمل الحكومي هناك للتعامل معهم». وتضيف: «تراكمت الخبرة في هذا المجال، الأمر الذي لم يتوافر لشرق ألمانيا بالدرجة نفسها، إذ شهد الشرق خلال السبعينات قدوم وافدين من كوبا وفيتنام، بهدف الدراسة أو العمل، فليست خبرة العمل الحكومية واحدة في جميع المناطق الألمانية، وفي كثير من الأحيان نتلقى تساؤلاً من قبيل لماذا علينا استقبال كل هؤلاء اللاجئين؟». وتؤكد كوتسولينا أنه يوجد 1000 برنامج حكومي للاندماج، معتبرة أنه يجب استغلال الكفاءات المقبلة، فمثلاً كأن يعمل المهاجر أو اللاجئ في الميادين التي تحتاجها ألمانيا أو لديها نقص بها. وتوضح: «نحن نعاني من مشكلة عدم وجود طيف واسع من برامج التدريب، فمسألة تأهيل المقبلين للعمل وتأهيل الكوادر الحكومية للتفاهم معهم يجب العمل عليها وتطويرها أكثر». بالنظر إلى تطور عدد اللاجئين بين عامي 1995 و2011 نجد أن سنة 1995 شهدت أكبر نسبة لعدد المتقدمين بطلبات اللجوء، بين لاجئين سابقين تمّ التجديد لهم وبين طالبي لجوء جدد، تنقسم طلباتهم بين لجوء إنساني وسياسي. وفي حين سجّلت سنوات الأزمة الاقتصادية تراجعاً ملحوظاً في العدد، وصل إلى أقل معدلاته عام 2008، مع أن الانخفاض في عدد مقدمي طلبات اللجوء بدأ بالانخفاض منذ عام 2002، واستمر في التراجع. وتمّ رفض 67 في المئة من عدد طالبي اللجوء، فغادروا ألمانيا عام 2003 وهي النسبة الأكبر بين 2000 و2011، ممّن رُفضت طلباتهم، بينما شهد عام 2008 أقل نسبة رفض التي لم تتجاوز 32 في المئة.