إذا كان ردّ فعل فرنسا على تنصّت «وكالة الأمن القومي» الأميركية على ملايين من مواطنيها بلغ من الحدّة أنه أثار أزمة معلنة مع الولاياتالمتحدة (وهي الحليف القديم لفرنسا، منذ الثورة الفرنسيّة والضابط لافاييت الآتي من أميركا إلى ثوار باريس)، فكيف يكون ردّ فعلها إذا صحّ ما أوردته صحيفة « دِر شبيغل» أخيراً من أن «وكالة الأمن القومي» تخترق أجهزة الخليوي للحصول على المعلومات والبيانات والملفات والصورة المُخزّنة عليها؟ بديهي القول إن السؤال ينطبق على الدول كافة أيضاً، خصوصاً تلك التي درجت على اعتبار الولاياتالمتحدة حليفاً موثوقاً، فتسهل لها أموراً أمنية عدّة انطلاقاً من ثقة كبيرة ربما بات مطلوباً إعادة النظر فيها، إذ ذكر موقع صحيفة «لوموند» على الإنترنت أن «وكالة الأمن القومي الأميركية» سجّلت 70.3 مليون معطًى عن مكالمات هاتفيّة بين مواطنين فرنسيين في فترة ال30 يوماً بين العاشر من كانون الأول (ديسمبر) 2012 والثامن من كانون الثاني (يناير) 2013، مع العلم بأن عدد سكان فرنسا يقارب ال66 مليوناً. تمرّد سنودن ووثائقه أطلقت صحيفة «دِر شبيغل» هذه المعلومات المثيرة استناداً إلى وثائق سرّبها إليها خبير المعلوماتيّة المتمرّد إدوارد سنودن الذي نسج علاقات قويّة مع هذه الصحيفة الألمانيّة. وقبيل الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة، أثارت «دِر شبيغل» عاصفة من الانتقادات للمسؤولين الألمان من الأحزاب كافة، خصوصاً الشخصيات المُقرّبة من المستشارة أنغيلا ميركل، إذ نشرت الصحيفة وثائق لسنودن تبيّن تعاوناً استخباراتيّاً واسعاً بين «وكالة الأمن القومي» الأميركية ومؤسسات الاستخبارات الألمانيّة، شمل استعمال برنامج التجسّس الإلكتروني الشامل «بريزم» Prism داخل ألمانيا. (انظر «الحياة» في 4 آب/أغسطس 2013). وعلِمَت «دِر شبيغل» من مُستَنَدات داخلية تعود إلى «وكالة الأمن القومي» سرّبها سنودن، أن هذه الوكالة الأميركية تستطيع التجسّس على بيانات هواتف «آي فون»، وتلك التي تعمل بنظام «أندرويد» Android، إلى جانب أجهزة «بلاك بيري» Black Berry. وفي الذاكرة أن الأجهزة الأخيرة كانت تتمتع بنظام تشغيل كان يُعتبر شديد الأمان، إلى درجة استفزّت معظم المؤسسات الأمنيّة عالميّاً، بما فيها البنتاغون نفسه. وتوضح المُستَنَدات المُسرّبة عينها، أن عمليات جمع المعلومات الاستخباراتية التي تنهض بها «وكالة الأمن القومي»، تشمل الوصول إلى بيانات مستخدمي الهواتف الذكية التي تصنّعها الشركات جميعها، خصوصاً الأنواع الأكثر رواجاً في تلك الهواتف. وأوردت الصحيفة معلومات منقولة من مُستَنَدات مُسرّبَة تحمل تصنيف «سرّي للغاية»، أن الوكالة المذكورة تستطيع التجسّس على معلومات تحتويها هواتف «آي فون» التي تنتجها شركة «آبل»، وأجهزة «بلاك بيري»، والهواتف التي تستخدم نظام تشغيل «أندرويد» للهواتف الجوّالة الذي طوّرته شركة «غوغل». وتشير المُستَنَدات المُسرّبة عينها إلى قدرة «وكالة الأمن القومي» على التجسس على البيانات الأشد حساسيةً في هذه الأجهزة الذكيّة، مثل: قائمة الاتصالات وحركة الرسائل النصّية وملفات الملاحظات، إضافة إلى بيانات عن أمكنة تواجد مستخدم الهاتف. الهاتف مدخلاً إلى الكومبيوتر الشخصي إضافة إلى ذلك، توضح المُستَنَدات المُسرّبة عينها، أن الوكالة شكّلت فِرَق عمل متخصّصة في التعامل مع أنظمة تشغيل الخليوي كافة، بهدف الوصول إلى بيانات الهواتف بشكلٍ سريّ. ووفق أحد هذه المُستَنَدات، تباهى خبراء الوكالة بنجاحهم في الوصول إلى بيانات هواتف «آي فون» في حالات استطاعت فيها «وكالة الأمن القومي» استعمال اختراقها للهواتف باباً للتسلّل أيضاً إلى الحاسوب الذي يستخدمه شخص معيّن ليجعل خدمات جهاز «آي فون» الذي يملكه متزامنة مع حاسوبه الشخصي. وفي فترة لاحقة، أتاحت برامج مصغّرة الوصول إلى ما يزيد عن 38 خدمة مميّزة من خدمات «آي فون». وتظهر المُستَنَدات المُسرّبة أيضاً أن خبراء الاستخبارات حقّقوا نجاحاً مماثلاً في اختراق أجهزة «بلاك بيري». إذ تفيد وثيقة أعدّتها «وكالة الأمن القومي» في العام 2009 بأن الوكالة قادرة على «رؤية حركة الرسائل النصية القصيرة وقراءتها»، وأنّه تعذّر عليها مؤقتاً، في سياق العام 2009، اختراق أجهزة «بلاك بيري». إلا أن الشركة الكندية غيّرت أسلوبها في تقنية ضغط البيانات، بعد أن استحوذت على شركةٍ أخرى في العام عينه. وفي شهر آذار (مارس) من العام 2010، أعلن القسم المسؤول في وكالة الاستخبارات البريطانية المعروفة باسم «المقر العام للاتصالات الحكومية» في مُستَنَد سرّي للغاية، أنه استعاد قدرته على الوصول إلى بيانات «بلاك بيري» واحتفى بالحدث باستخدام عبارة «شمبانيا»! وتورد المُستَنَدات المُسرّبة أيضاً أن «وكالة الأمن القومي» نجحت في الوصول إلى نظام البريد الإلكتروني في أجهزة «بلاك بيري»، على رغم ما اشتُهِر عن ذلك النظام من مناعة أمنيّة فائقة. ومن الواضح أن ذيوع هذه المعلومات مثّلَ انتكاسة لشركة «بلاك بيري»، التي طالما تباهت بأن برنامجها في البريد الإلكتروني غير قابل للاختراق. وفي هذا الصدد، ردّ مسؤولون في شركة «بلاك بيري» على أسئلةٍ طرحتها صحيفة «دِر شبيغل» تتعلّق باختراق ذلك النظام البريدي، بالقول إن عمل الشركة لا يفرض التعليق على تقارير إعلامية حول مراقبة حكوميّة لحركة الاتصالات في نظام بريد الشركة. وأشارت الشركة عينها إلى أنها لم تبرمج خطّ إمداد خفيّاً لمنصتها. وتدلّ المُستندات المُسرّبَة إلى «دِر شبيغل»، على أن التجسّس على الهواتف الذكية حصل ضمن نطاقٍ محدود، واستُخدم في بعض الحالات بصورة فرديّة من دون علم شركات الهواتف الذكيّة بعملية التجسّس.