عندما خرجت بعض السعوديات يقدن سياراتهن إبان أزمة الخليج في لحظة تعبير غير محسوبة النتائج عن حق أصيل مسلوب، فإنهن بلا شك أسأن من حيث لم يردن إلى قضية مهمة كانت ولا تزال محل تجاذب، يقع في حقيقته بين حقوق المرأة وذكورية المجتمع. وفي رأيي، أن أبرز ما قد يدوّن من ملاحظات في خانة العتب على تلك الخطوة الجريئة، هو تحين فرصة تسليط الضوء على المملكة، نظراً للحال السياسية والوجود الأجنبي الضخم، وهو ما كان مردوده طفرة اجتماعية منددة، أكلت في وجهها أخضر التعاطف مع قضيتهن ويابسه. بالنظر إلى ظرف الوطن التاريخي ساعتها الذي كان بحاجة إلى اللحمة الداخلية والاصطفاف أمام المحنة، ولم يكن ينقصه هجمات إعلامية خارجية تنال من هيبته لتشكل وسيلة من وسائل الضغط. لذلك، فإن تصنيف هذا المطلب أتى عليه بصورة عكسية، لم تخرج في إطارها عن دائرة الانتهازية البحتة، وفي أحسن الأحوال عن التقدير السيئ للتوقيت. اليوم وبعد أكثر من عقدين على تلك المرحلة، وفي وقت تشهد السعودية تحولاً إيجابياً للمزاج نحو قضايا النساء، جراء الوقفات الشجاعة للدولة في طريقها لإصلاح الخلل الحاصل بتعطيلهن، سعياً منها إلى وضع أكثر عدلاً يرسخ للإنسانة السعودية شكلاً من الضمانة والأمن الاجتماعي، وينهل من قيم المجتمع الأصيلة التي تعاهد الجميع على حفظها، بما لا يتنافى بالتأكيد مع تعاليم الإسلام التي قامت الدولة على أساسها، على رغم محاولات البعض المتشددة والمأزومة التي تنشد عدم تبدل الحال، وتعيش في ما يشبه الحرب مع هذا النوع من التصحيح، وتغض الطرف في شكل أقرب ما يكون إلى العناد عن حاجات النصف الآخر، حين ترسم لنفسها هيلماناً وسلطة ما أنزل الله بها من سلطان! هذا الدور الذي تلعبه الحكومة بكل اقتدار في صناعة التحول، يظهر جلياً بدعمها المرأة عبر قرارات مهمة، شكل بعضها نوعاً من الصدمة المحمودة التي جعلت المجتمع يتقبل وهو يرى للمرة الأولى نساءه في شكل جديد ومناصب مهمة كنائبة للوزير أو عضوة في مجلس الشورى، تجلس جنباً إلى جنب مع شريكها في الوطن، وتناقش قضاياه. ويشاهدها أيضاً في المحال التجارية، تأخذ مكانها المناسب بدلاً عن الرجل الذي كان في المعادلة المقلوبة قبل ذلك، يبيع على النساء مستلزماتهن الأكثر خصوصية في مجتمع يزهو كثيراً بلقب «المحافظ»! أقول إنه وبعد عقدين من الزمن، وفي خضم الضغط المتزايد لظروف إقليمية ودولية تتطلب مرة أخرى التفافة حول الوطن، تظهر دعوات جديدة في حال تشبه التظاهر للتذمر من الواقع، وتحدد يوماً للخروج بمطلب قيادة المرأة، ذلك الحق الذي تعذر على مدى أعوام عن عدم إيصاله إلى مستحقيه لسبب أو آخر، ليس مجالاً لذكرها الآن. المهم في الأمر هنا، أن هذا الحق على ضرورته وإلحاحه، وعلى ما فيه من تحقق لمصالح وطنية عدة ليس أهمها حفظ ملايين الريالات التي تصرف في غير مكانها، وتستنزف جيوب كثير من الأسر. إلا أن المطالبة على النحو المطروح اليوم ستكون في ظني واحدة من معاول هدم المشروع الذي استطاعت الظروف أن تحوله من رد فعل حانق لا يمكن تصوره الآن على رجل التسعينات الميلادية عند رؤيته مشهد النساء اللاتي قدن، إلى منظر التأييد والمناصرة التي صورتها عدسات الهواتف المحمولة، وانتشرت على «يوتيوب». أخشى ما أخشاه أن تعود هذه الحماسة بالقضية إلى المربع نفسه الذي انطلقت منه من دون الخروج بنتائج مرجوة في ظل تربص المعترضين وصناع الأزمات، ممن شحذوا همم أتباعهم حين استلوا وسائل الاتصال الاجتماعي للتسلق على هذا الحق في سبيل أغراضهم التي تنهش طموحات الإصلاح! بناءً عليه، فإن المأمول من النساء أن يعبرن بمطالبهن بالطرق الشرعية التي تؤدي إلى الهدف، وذلك بالرفع إلى جهات الاختصاص، وألا تفقدهن طول مدة المطالبة صواب المسلك، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أهم ما تتميز به على الرجل هو ذلك النوع الفاخر من الجلد والصبر بلا حدود، وجدير التنبيه على ألا تأخذهن عزة المطلب بإثم الوقوع في جهالة الموقف، وعدم تثمين جهود العاهل السعودي الذي وعد في لقاء تلفزيوني، منطلقاً من إحساسه بالمسؤولية تجاههن وقبل أية مطالبات من هذا القبيل، بأن تقود المرأة سيارتها بنفسها. ويبقى لزاماً عليّ في النهاية أن أذكر تلك المرأة التي عودتنا في كثير من المواقف على أن تبذل النفيس في سبيل الوطن، ألا تبذل الوطن هذه المرة في سبيل مطلبها المستحق. * كاتب سعودي. [email protected] @F_ALASSAF