أقام قيس السندي معرضاً لرسومه في قاعة «رؤية» في مدينة جدة السعودية. الرسام العراقي المقيم في الولاياتالمتحدة يضع معرضه الذي حمل عنوان «مفاهيم ملونة» وأشرفت على اقامته دينة العظمة في إطار سلسلة من المعارض التي يتوجه من خلالها إلى المتلقي العربي في مسعى منه للدفاع عن مفاهيم الرسم التي صار الكثيرون يشكّكون بقدرتها على الصمود أمام هجمة الفنون المعاصرة التي صارت أسواق الفن تروّج لها. في معارض سابقة كان السندي يستعير حدوسه من الواقع. وبغض النظر عن التقنية، فإن الصورة لا تكتفي بالمتخيل. هذا ما كان يحرص على توضيحه دائماً. كانت هناك دائماً فكرة محلقة، من غير أن تتخلى تلك الفكرة عن قدميها. مسافرون (فيديو أرت) موطئ قدم (فن مفاهيمي) حرب المياه (تجهيز)، وسواها من أعماله التي تبدو كما لو أنها اقتطعت من مادة خالية تظل متشبثة بأصولها الواقعية. كما لو أن الفنان يستأنف إلهامه من لحظة اتصال عميق باليومي والمباشر والمتداول. ستخفف الفرشاة في الرسم من وطأة ذلك الاتصال. غير أن الفنان، حتى في الرسم لا يتنكر للعقل، رغم رخائه العاطفي الواضح. سطح اللوحة لديه هو موضع للدراسة، الذي لا يتناقض مع وقوع بعض الارتجالات هنا وهناك. وغالباً ما يرسم السندي نساء، يجلبهن مباشرة من حفلة مترفة. من المؤكد ان الرسام يضفي عليهن شيئاً من أناقته الروحية، غير أنه لا يقبل بهن إلا إذا كن مؤثثات بالرؤى والألغاز التي في إمكانها أن تصنع من الواقع حلماً ومن الحلم واقعاً. هل هذا يعني أن نساء أحلامه هن في حقيقتهن نساء واقعيات؟ مهارته الفنية يمكنها أن تتوراى خلف نوع من التقنية، يبدو عفوياً، ولكنه ليس كذلك دائماً. وكما أرى فإن الفنان قد بذل جهداً عظيماً خلال السنوات القليلة الماضية من أجل أن يبدو تمكنه التقني حدثاً طبيعياً. إنه الآن يرسم بيسر، ذلك لأن يده صارت هي الأخرى تحلم. أما عينه فقد صارت تلتقط الأفكار اليومية العابرة. مهمة تقع خارج محيط الرسم، لذلك صار الفنان يلجأ إلى تقنيات أخرى، غير الرسم ليعبّر عما يجري له وعما يرغب في أن يقوله. لقد قدر له أن يكون تائهاً. ولأنه لم يجد في المتاهة حلاً لأزمته الوجودية فقد صار يصف الخطوات التي يلقيها. لا يرغب في أن يعدنا بفجر مختلف غير أن شعوره بالفجيعة، وهو شعور قديم صار يقترب به من وظيفته رائياً. في الرسم يتحقق لديه نوع من الإنسجام النغمي التي تتكفل الأصباغ برعايته، غير أنه في التقنيات الأخرى يكتفي بالتناقض، دليل انسجام مع الحقيقة. قيس السندي هو ابن بلد ذهب إلى ضياعه. سيكون علينا أن نرى ذلك الضياع مبثوثاً في الكثير من الأفكار التي يعالجها الفنان صورياً. في موطىء قدم هناك خيال لقدميه اللتين لا تزالان تحلقان. فكرة أن يكون موجوداً هناك تعذبه. لكن أين يقع ذلك الهناك؟ بالنسبة لفنان اكتشف في الرحيل ضالته من الصعب تسمية ذلك الهناك. فقد لا يكون الهناك مكاناً بعينه، بل هو عبارة عن مجموعة متلاحقة من الامكنة التي تمر على عجل. فيلمه القصير «مسافرون» يقول الشيء الكثير في هذه المسألة، غير أنه لا ينجدنا بحل مؤكد. الفنان نفسه يعرف أن الحل سيكون نوعاً من الخرافة. الكيلومترات التي مشيناها هي جزء من المسافة التي لا يعرف أحد إلى أين تؤدي أو متى تنتهي. لا اعتقد ان فناناً من نوع قيس السندي يفكر بالوصول إلى هدف بعينه بقدر ما يفكر في تأمل الطريق التي سحرته. نساؤه هن مصدر طمأنينته وهن ثروته التي يكافح من أجل صون رخائها. لذلك أتوقع أن نغمه سيظل موصولاً بصمت الانثى المتأمل. الأم التي ينعم بيتها بجلستها، وبحكمة خيلائها الاسطوري. من خلال الجمال يبدي السندي نزعة تطهرية، تعلو بالصورة على محتواها المباشر. إنها تقلد تلك الصورة باعتبارها امتحاناً لفكرة الجمال. لن يقول أحد: «لقد رأيتها من قبل» بل يمكنه القول: «لقد حلمتها» بالرسم يصل قيس السندي إلى ما يحلمه. غير أنه لا يصل إلى أحلامه إلا بقوارب يستعيرها من الواقع. شيء منه يبقى ليقيس المسافة بين الخيال والواقع.