اعتقد كثيرون أن الرئيس الأميركي باراك أوباما كان جاداً في تهديده النظام السوري بضربة عسكرية لاستخدامه الأسلحة الكيماوية في غوطة دمشق، بناء على تحذيره له منذ أكثر من سنة من أن استخدام هذه الأسلحة هو خط أحمر، لن تدعه الولاياتالمتحدة يمر من دون عقاب. واعتقدوا أن محاسبة الرئيس السوري بشار الأسد ستكون قاسية كونه، كما جاء على لسان أوباما وغيره من قادة الدول الأوروبية، مسؤولاً بصورة رئيسة عن المجزرة التي ذهب ضحيتها مئات السوريين الأبرياء، خصوصاً الأطفال. ولكن مجريات الأمور سارت عكس هذه التوقعات، إذ ما لبث أوباما أن تراجع عن تهديده بتوجيه ضربات مؤلمة إلى مواقع عسكرية سورية أساسية، واكتفى بموافقة النظام السوري على تدمير ترسانته من الأسلحة الكيماوية عملاً بالاتفاق الأميركي - الروسي الذي هندسه وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف. وبذلك استطاع الروس إبعاد الأسد عن المحاسبة، وتثبيت موقعه في الرئاسة، وحماية نظامه، وحماية أمن إسرائيل. وأدت مقاربة الولاياتالمتحدة لموضوع الأسلحة الكيماوية لدى النظام السوري، من دون الأخذ في الاعتبار الأوجه الأخرى من الأزمة السورية، إلى خيبة أمل كبيرة لدى الرأي العام العربي، وكسر جدار الثقة بينها وبين بعض الدول الإقليمية لعدم إدراجها صفقة الأسلحة من ضمن تسوية شاملة للأزمة السورية. وبدا لافتاً غضب الشارع العربي من التسوية التي اقتصرت على اتفاق أميركي - روسي حول الكيماوي السوري، وأهملت الأزمة السورية المستمرة منذ ما يزيد على عامين، ومن تراجع الإدارة الأميركية عن محاسبة الأسد على جرائمه ضد شعبه، وعن مطلب تنحيه عن السلطة. وما زاد في غضب الشارع واستيائه من إدارة أوباما زيارة وزير خارجيته جون كيري إسرائيل على أثر الاتفاق فيما لم يكلف نفسه عناء زيارة الدول الخليجية للغاية نفسها، وامتداحه الأسد لامتثاله لتنفيذ نزع أسلحته الكيماوية. وأوجس العرب من الاتصالات الأميركية - الإيرانية والمكالمة الهاتفية بين أوباما والرئيس الإيراني حسن روحاني، بعد قطيعة بين بلديهما دامت أكثر من ثلاثة عقود، التي حملت إشارات كثيرة إلى معاودة المفاوضات بينهما بوتيرة متسارعة من أجل التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني، تتوقف إيران بموجبه عن تخصيب اليورانيوم لأغراض عسكرية وتتابع تخصيبه لأغراض سلمية، في مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الدولية والأخرى الأميركية التي ترزح تحتها، وباتت غير محتملة بالنسبة إليها. ويكمن هاجس العرب من هكذا اتفاق إلى إهماله القضايا التي يعانونها من إيران منها، تدخلها في شؤون بعض الدول العربية وإثارة القلاقل والفتن الطائفية فيها، وسعيها إلى تعميم نفوذها وسيطرتها داخل هذه الدول. ويهدف أوباما من خلال انفتاحه على إيران إلى إيجاد حل سلمي لملفها النووي يجنب بلاده حرباً معها، بالتالي يطبع عهده بأنه الرئيس الذي لم يصنع حرباً. وسيؤدي حل الملف النووي الإيراني إلى إراحة إيران اقتصادياً، بالتالي إلى توجيه اهتماماتها بصورة أكبر نحو دول المنطقة، وتعزيز نفوذها فيها، والتمسك أكثر ب «حزب الله» وتقويته على أساس أن يكون هو قاعدتها العسكرية المتقدمة لردع إسرائيل من القيام بأي عمل ضدها. ولا تشير المعلومات إلى أن الانفتاح الأميركي - الإيراني والاستعدادات المتبادلة من أجل إيجاد حل للملف النووي الإيراني يتضمن تقديم تنازلات من إيران، خصوصاً في ما يتعلق بدعمها نظام الأسد ومده بالمال والسلاح والخبراء، وتمسكها بسلاح «حزب الله» وبوجوده في سورية، ومن غير المرتقب أن ينعكس الانفتاح الذي عبر عنه روحاني تغييراً في موقف إيران الداعم ل «حزب الله». لذا، فإن أي اتفاق أميركي - إيراني لا يتضمن حلولاً للقضايا التي تعانيها دول المنطقة من إيران سيكون كارثياً على هذه الدول، وسيؤدي إلى زيادة الاحتقانات والفتن الطائفية بين مكونات شعوب المنطقة، خصوصاً بين السنة والشيعة، بحيث تصبح الكلمة الأولى للمتشددين من الطرفين. وعلى عكس أوباما الذي يرغب في إيجاد حل سريع للملف النووي الإيراني، وعقد تفاهم مع إيران ينهي 30 سنة من العداء، ويؤسّس لعلاقة تعاون صادقة وجدية تؤمن المصالح الحيوية والاستراتيجية للبلدين، فإن قادة الحرس الثوري الإيراني الذين اعتبروا الاتصال الهاتفي «خطأ تكتيكياً» يريدون أن يكون مسار المفاوضات طويلاً وتدريجياً، خشية أن تكشف سرعة التجاوب الإيراني الرسمي مدى الضيق الاقتصادي والمعيشي الذي تواجهه إيران، ما قد يضعف موقفها. وكما أدى اتفاق الأسلحة الكيماوية إلى خلاف وتباعد بين أميركا والدول العربية، كذلك أدى التناغم بين أميركا وإيران إلى اتساع الهوة بين الأميركيين والدول الخليجية، خصوصاً على ضوء المواقف الأميركية من الملف النووي الإيراني التي تنذر بمعالجة له مماثلة لملف الكيماوي السوري. وخلاصة القول، إن اتفاق الكيماوي أراح إسرائيل من خطر أسلحة كانت تثير الرعب فيها، والاتفاق الأميركي - الإيراني المحتمل سيريحها من خطر أسلحة نووية كان في نية إيران إنتاجها، وهي تأمل بأن يفقد سلاح «حزب الله» وظيفته عند حصول هذا الاتفاق. أما العرب فقد خرجوا من هذه المسرحية خاسرين، فالأسد باقٍ في السلطة حتى انتهاء ولايته كحد أدنى، ولا عقاب له على جرائمه ضد شعبه، وإيران، في حال اتفاقها مع الأميركيين، ستستعيد عافيتها وتتفرغ إلى تعزيز نفوذها في المنطقة. وهذا ما يجعلنا نضع العرب بين مطرقة من كانوا يعتقدونها حليفتهم وسندان من ادعت أخوتهم في الدين. * كاتب لبناني