فكا الكماشة آخذان في الإطباق وذراعاها ممعنان في الضغط، فذراع الحكم تضغط باعتقال القيادات وتجفيف منابع المال وشيطنة التنظيم وحصار القواعد، وذراع الجماعة تضغط بالتشهير بالجيش وتشويه الشرطة وسب الشعب وخطب ود الغرب وطلب الغوث من التنظيم الأم والترحيب ضمناً بالهدايا والقرابين المقدمة من قبل التنظيمات والجماعات الصديقة والحليفة باعتبارها «عربون محبة». وبين «عربون» دعم للشرعية والشريعة مقدم على هيئة تفجيرات هنا أو تفخيخات هناك، وضغوط تشويه بصفحات إعلانات تستعرض «مئة يوم من الديكتاتورية»، وقيود شل مظاهر الحياة اليومية في القاهرة الكبرى من جهة، و «عربون» دعم للإرادة الشعبية المنقلبة على حكم «الإخوان» في صورة اعتقالات لقيادات الجماعة وتفريغات لاعتصاماتها ومحاصرات لتظاهراتها وشيطنة لمبادئها وإقصاء لقواعدها من جهة أخرى، يتابع المصريون يومياً بكثير من القلق والتوتر وقليل من التفاؤل والاستبشار ما سيسفر عنه العربونان المتناحران من أجل الوصول إلى اتفاق يعرفه بعضهم باعتباره «مصالحة» ويعنونه آخرون ب «مواءمة» ويرى فريق ثالث أنه «مهادنة» فيما يصنفه فريق رابع على أنه «طلاق متحضر». تقول أبجديات التفاوض مع العدو أن كل طرف يهدف إلى الخروج من التفاوض بأكبر كم ممكن من المكاسب وأقل قدر من الخسائر على حساب الطرف الآخر. والمفاوض الأفضل هو ذلك القادر على تحديد نقاط ضعف العدو المتفاوض معه لاستغلالها أسوأ استغلال. وفي سبيل تمهيد الأرض نحو طاولة المفاوضات يفضل العمل على إلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر بالعدو وإمكاناته وقدراته لتسفر جهود الضغط والتضييق عن أكبر قدر ممكن من المكاسب إبان الجلوس إلى طاولة المفاوضات. وتقول أبجديات خطط «الإخوان» ان طريقهم إلى طاولة المفاوضات لابد من أن تمر عبر الأرض المحروقة، فهم وإن التزموا حرفياً الحرق من خلال إشعال إطارات السيارات وسيارات الشرطة وما تيسر من مركبات الجيش ومنشآت حكومية وأخرى حيوية وثالثة شرطية يعمدون إلى حرق الأرض عبر إشعال تظاهرات تجمد الحياة، وتأجيج مسيرات تشل الإنتاج، وتفعيل تحركات تعيق الاقتصاد، وتنشيط إجراءات تشوه قيادات وتسكت على عمليات تفخخ منشآت وتصمت أمام اعتداءات تفجر كنائس، باعتبارها عوامل تعضد من موقفهم التفاوضي وتؤازر وضعهم على الطاولة. الطاولة الموعودة التي يدور حولها القيل والقال، والنفي والإيجاب، والتمويه والتأكيد، والعصا والجزرة، ما زالت في حال إعداد وتجهيز. فالقيادات «الإخوانية» المحبوسة باتت غير قادرة على تحريك قواعدها بالشكل الكامل، والتضييقات الأمنية المفروضة على جموع الشباب والطلاب الملبين لأوامر الحشد والتظاهر باعتبارهم «عماد الثورة» كما أكد القيادي «الإخواني» الفار عصام العريان تحد من حركتهم، والتركيز الإعلامي المحلي على تظاهرات أنصار الشرعية والشريعة السلمية والتي تقتصر على رشق قوات الأمن بالحجارة وسب المارة المتضررين من إغلاق الطريق وتهشيم سيارات يشكو أصحابها من تعطيل الجسور والطرق ولعن السكان المهاجمين بأغنية «تسلم الأيادي» وتصوير الصبية المشاركين في مليونيات دعم الشرعية وعودة الرئيس المعزول محمد مرسي إلى القصر وهم يتسلقون أبواب قصر القبة في مشهد استعراضي عجيب والتحليل الأمني لتلاقي مصالح «ألتراس» و «الإخوان» مصادفة في مسيرات «سلمية» واحدة، تمهد جميعها طريق الحكم وتهيئه للطاولة ذاتها. فالمطلوب هو القضاء على ما تبقى من سمعة الجماعة باعتبارها «ناس بتوع ربنا» والإجهاز على بقايا تعاطف مع «الإخوان» الذين «لا يبتغون إلا وجه الله» بعد ما تبين إنهم يبتغون كذلك وجه السلطة والحكم. وجه السلطة والحكم شأنه شأن الزواج والطلاق يحتم على أطرافه المتنازعة الجلوس إلى طاولة واحدة مهما بلغت درجة قرف كل منهما من الآخر. وبما أن الجماعة تعاملت مع علاقتها بالسلطة باعتبارها زواجاً كاثوليكياً قائماً على الوحدانية والديمومة، حيث زوج واحد لزوجة واحدة لا يفرقهما إلا الموت، وحيث إن المصريين اعتقدوا أن الجماعة اقترنت بالسلطة على سبيل الخطبة التي إن أثبتت توافقاً ونجاحاً أدت إلى زيجة قابلة للاستمرار ومعرضة للطلاق، فإن أحد العراقيل نحو الطاولة يكمن في تغيير مفاهيم العلاقة. مفاهيم العلاقة الجاري حالياً التنازع عليها تجعل من حادث كنيسة الوراق، واستهداف قوات الأمن، وتفخيخ منشآت الجيش، وتفجير مباني الشرطة، وتعطيل المرور، وترويع المواطنين نقاطاً خلافية بين الطرفين. فعقيدة التآمر تسيطر على الجماعة، أو هكذا تقول، فالجيش يقتل جنوده، والأمن يفخخ منشآته، والمسيحيون يطلقون النيران على كنائسهم، وإدارة المرور تعطل السير، والمواطنون يدعون الترويع لتشويه «الإخوان» المسالمين. وعقيدة الدهشة تهيمن على المصريين الذين يرون ويشمون ويشعرون بأياد مناصرة للشرعية والشريعة في كل ما يحدث في الطريق إلى المصالحة. وسواء كانت «مصالحة» أو «مواءمة» أو «مداهنة» أو «طلاقاً متحضراً»، فإن كماشة الحكم و «الإخوان» آخذة في الإطباق بكلا فكيها على قواعد التفاوض وذراعاها ممعنتان في وضعهما العكسي، لكن يظل المحور واحداً ثابتاً غير قابل للي أو الكسر أو التحوير، ألا وهو مصر والمصريين.