غفوة العيد دفعت مئات المهاجرين المتحدرين من أصول إفريقية إلى اقتحام المعبر الحدودي إلى سبتةالمحتلة شمال المغرب، بعد أن تحولت المناطق المجاورة لها وصنوها مليلية إلى ملاذات يحتمي المهاجرون في غاباتها وجبالها. ولن يثنيهم حاجز الأسلاك الشائكة الذي أقامته السلطات الإسبانية عن أي مغامرة للوصول إلى الضفة الأخرى. جديد الحادث المأسوي، أنه تزامن وقرار السلطات المغربية التعاطي مع ملف الهجرة غير الشرعية وطلبات اللجوء من منطلق تكريس حق الإقامة والتنقل من دون تمييز. غير أن شعار المرحلة الذي يبدو براقاً يخفي إكراهات تنفيذية. أقلها أن المهاجرين الأفارقة القادمين من منطقة الساحل وغيرها، ينظرون إلى المغرب كمحطة عبور وليس استضافة دائمة، بينما أكثر المقاربات تفاؤلاً في احتواء الظاهرة لم يفلح في التخفيف من وطأتها الاجتماعية والإنسانية. ولا يخفي المغاربة أنهم لا يقدرون وحدهم على لعب دور الدركي الذي يبتسم ويوزع الورود. مصدر الاختلال أن الأوروبيين المعنيين أكثر من غيرهم بالحد من ظاهرة الهجرة الإفريقية والمغاربية، ما انفكوا يطلقون الوعود لناحية الاهتمام بأوضاع الدول الإفريقية، من أجل تثبيت الأمن والاستقرار والمساعدة في التنمية، ولا يرفقون الهاجس الأمني بإجراءات عملية، وباستثناء التنسيق أو التدخل عسكرياً لمواجهة الإرهاب والانفلات الأمني تبقى تعهدات المساعدة في التنمية ضئيلة ومحدودة. وما لم يتحقق في فترات الرخاء يظل عسيراً في سنوات الأزمة الاقتصادية والمالية. انشغل الأوروبيون بتطويق التحديات الأمنية لظاهرة الهجرة، منذ بدا لهم أن بعض التجمعات السكانية في بلدانهم تحولت إلى مراكز استقطاب من طرف تنظيمات إسلامية متطرفة، أكثر من انشغالهم بتداعيات الهجرة غير الشرعية. ولولا هجمات إرهابية كانت بعض العواصم الأوروبية مسرحاً لها، لما فرض العقل الأوروبي نظام شينغن الذي وزع العالم إلى أخيار ومشبوهين. ولا يزال المنطق ذاته يفرض نفسه، عبر إجراءات احترازية وتحذيرية اتخذت من الهجرة رهاناً محورياً، إلى درجة تنامي أحقاد وممارسات عنصرية. لكن الهجرة التي كانت تقتصر على طالبي العمل الباحثين عن فرص لتحسين أوضاعهم الاجتماعية، تطورت في اتجاه مغاير، وأصبحت رديفاً لغياب الاستقرار وتزايد الحروب والصراعات وفقدان الثقة في المستقبل، وإنه لأمر مدهش أن تكون قوارب الموت التي كانت تتحين المغامرة انطلاقاً من السواحل الجنوبية للبحر المتوسط، تضاعف حجمها أكثر على خلفية ما يعرف بالربيع العربي. وليس مصادفة أن مواكب المآتم البحرية زادت في ظل غياب رقابة الحدود. بيد أن الإقدام على اقتحام معبر حدودي يعكس ذروة اليأس، وتصبح هكذا مغامرة في وضح النهار أهون من تزجية الوقت في انتظار الذي لا يأتي. فقد جرب مهاجرون أفارقة اقتحام أسوار الأسلاك الشائكة التي تشمل أجهزة الإنذار المبكر. وسقط منهم ضحايا في شبه محاولات فرار إلى عالم مجهول. ولا بد أن هذا الإصرار في طريقه لأن يتكرر، كونه لن يترك خلفه غير حالات إحباط تكبد من أجلها المهاجرون الأفارقة عبور صحارى وجبال ومسالك وعرة للوصول إلى معبر يتراءى من بعده خلاص وهمي. لكن الوصول إلى مشارف سبتة ومليلية لا يقابله الانزعاج نفسه عند محاولة اقتحام حدود وهمية، تفصل بين الامتداد التاريخي والجغرافي للمدينتين كآخر نقطة في إفريقيا، وبينهما كواقع تعتبره إسبانيا أراضي تابعة لها في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. وإذا كان المغرب ارتضى بناء أسوار تسيّج المدينتين للتصدي للهجرة غير الشرعية، فإن ذلك لا يعني أنها حدود معترف بها. المشكل أنه حين يتمكن المهاجرون من التسلل إلى المدينتين، تستضيفهم مراكز اللجوء في انتظار الترحيل أو الدمج، وحين يفدون على المغرب يصنفون برؤية مغايرة، تتعالى حولها أصوات تنظيمات حقوقية، تطالب باحترام الكرامة وحقوق الإنسان وعدم التمييز. وفيما قوبلت مبادرة الرباط لضمان حقوق المهاجرين بالمزيد من الترحيب، لم يكلف الجانب الأوروبي نفسه عناء ترجمة تلك المشاعر إلى أفعال، أقلها الوفاء بتعهدات لدعم جهود الحرب على الهجرة غير الشرعية ودمج المهاجرين وتمكين الرباط من وسائل استيعاب الظاهرة المتدفقة. وكما يطرح واقع سبتة ومليلية المحتلتين إشكالات حقيقية حول حدود رقابة تسلل المهاجرين، فإن الوضع الاستثنائي الذي يجتازه الشريط الحدودي المغلق مع الجزائر شرقاً يطرح تحديات أمنية واجتماعية، ليس أبعدها غياب التنسيق وتبادل الخبرات في رقابة حدود شاسعة تمتد إلى عمق الساحل جنوب الصحراء. بين الأبعاد الإنسانية والسياسية والأمنية، تتداخل التزامات وهواجس، وما دامت الأوضاع في الساحل على حالها، فإن موجات الهجرة غير الجماعية مرشحة لأن تتضاعف أكثر، في ظل أوضاع إقليمية شبه منسية. ففي الخلاصة ليست محاولات اقتحام المعابر وحواجز الأسوار أكثر من إيذان بنفاد الصبر. وحين لا يصبح أمام المرء ما يخسره غير بؤسه، فإنه يظل مستعداً لأي مغامرة.