هناك قول إنكليزي متداول بهذا المعنى: «إنه خبر جيد جداً لدرجة عدم التصديق». ويصح هذا الكلام على التحرك السريع الذي حدث بين الولاياتالمتحدةوإيران منذ تفاهمات نيويورك بين الرئيس باراك أوباما والرئيس الإيراني المنتخب حديثاً السيد حسن روحاني. ويبدو أن نتائج الأجواء الإيجابية على ترميم العلاقات بين واشنطنوطهران بدأت بالظهور ولو في شكل تدريجي، وآخر هذه المؤشرات النتائج التي انتهى إليها اجتماع إيران ومجموعة دول 5 زائد واحد في جنيف، حيث خرجت الأطراف المشاركة كافة إلى ما يؤشر إلى انتقال الحال من اللاعلاقات إلى قيام علاقات تعمل على خفض درجات التوتر بين الجانبين وما أكثرها! والنقطة المحورية لكل ذلك هو الملف النووي الإيراني. وأعلن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أن إيران ستوافق في المستقبل على الزيارات المفاجئة التي سيقوم بها المفتشون الدوليون للمواقع النووية في إيران. وكان هذا البند أحد المواد الخلافية خلال فترات طويلة من الاجتماعات والمداخلات لم تفض كلها إلى أي شيء، لكن الآن اختلفت الصورة تماماً. كذلك، بدأت بعض الخطوات الإيجابية بالبروز نتيجة تحسن العلاقات الإيرانية - الأميركية حيث تم الإعلان عن العودة إلى التبادل الديبلوماسي بين إيران وبريطانيا بعد الأزمة المعلومة: وباقي الخطوات دخلت مدار التغيير نحو الأفضل، وينتظر أن تبرز أكثر فأكثر خلال الأيام والأسابيع القليلة المقبلة. إذاً، عملية الاختراق في العلاقات بين طهرانوواشنطن حققت نجاحاً حتى الآن وبانتظار المزيد في الآتي من الأسابيع والشهور. هل إن هذا الاختراق في العلاقات الإيرانية - الأميركية أصبح مساره من النوع السالك والآمن؟ النظرة التحليلية للأمور تنبئ بأن طريق طهرانواشنطن أصحبت سالكة لكن، غير آمنة! والمعنى؟ المعنى أن باب الاتصال والحوار المباشرين بين الجانبين الإيراني والأميركي قد فتح، لكن يجب التنبه إلى أطراف يهمها ألا يحدث مثل هذا الانفتاح وهذا التقارب لأكثر من سبب، وما قصدناه ب «غير الآمنة» إشارة واضحة إلى من سيسعى لنسف هذا التقارب من جديد، بخاصة من جانب الأفرقاء الذين يعيشون على استمرار خلافات طهران - واشنطن. حتى بعض الاتجاهات والأصوات في الداخل الإيراني «ساءها» التقارب الذي حدث بين الرئيس روحاني والرئيس باراك أوباما عبر «ديبلوماسية الهاتف». إذ اعتبر البعض أن عدم اللقاء بين الرئيسين روحاني وباراك أوباما يعتبر عاملاً سلبياً في تطويع العلاقات الثنائية، ويبدو أن «ديبلوماسية الهاتف» قد أدت دوراً كبيراً في مسيرة التوجه الجديد للعلاقات بين البلدين. وفي سياق الدول أو المراجع غير الموافقة على هذا التقارب، منها في الداخل الإيراني عناصر من «المحافظين المتشددين» الذين حرصوا على التظاهر لدى عودة روحاني من واشنطن ورددوا هتافات معادية لأميركا... وأخرى تعارض ممارسات روحاني خلال وجوده في نيويورك وعقده محادثات مع عدد من الرؤساء على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة. ما الذي تنتظره إيران من الولاياتالمتحدة كنتائج سريعة ومباشرة لهذا التحول في العلاقات؟ الواقع أن «المأزق السوري» هو الاختبار الكبير الذي يجب أن تواجهه «الديبلوماسية الجديدة» بين طهرانوالولاياتالمتحدة، لذا علينا أن نلاحظ مدى أهمية طرح المبادرة الروسية لتجميد أزمة الضربة العسكرية الأميركية على سورية، فتلقفها أوباما ووجد فيها «خشبة خلاص» لتفادي قيام مواجهة عسكرية بين الولاياتالمتحدة وسورية بعدما اتضح لأوباما أن «مخطط الضربة» أمر غير شعبي في الولاياتالمتحدة ولا في العالم، وهو ما حصل عليه إجماع وسط استغراب وإدانة بعض الاطراف التي كانت تريد توجيه هذه الضربه في إطار إضعاف القدرة القتالية للقوات السورية النظامية في حربها على العناصر «التكفيرية المتطرفة». وفي سياق تسلسل الأحداث جرى تبادل رسائل سرية بين الرئيس الأميركي أوباما والرئيس الإيراني حسن روحاني، وبموافقة المرشد الأعلى السيد علي خامنئي. وتضمنت الرسالة تهديدات إيرانية بالرد بشتى الوسائل إذا ما تعرضت سورية لأي هجوم كبيراً كان أم صغيراً، وأتبعت هذه الرسالة بتصريحات للسيد علي خامنئي قال فيها وهو يخاطب أوباما: «إذا تعرضت سورية لأي ضربة عسكرية من جانبكم فسيكون لذلك نتائج كارثية على المنطقة بأكملها». عندها أدرك الرئيس الأميركي أنه قد أسقط في يده ويجب أن يتراجع عن توجيه ضربة إلى سورية، وهذا ما حدث وتسارعت باقي التفاصيل المعروفة. ما هو الوضع عليه الآن في سورية؟ يأخذ البعض على نظام الرئيس بشار الأسد أنه ألقى بسلاحه الكيماوي إلى الهلاك وهو السلاح الوحيد الرادع للأسلحة الإسرائيلية! قد يكون هذا صحيحاً، من حيث مبدأ المواجهة مع إسرائيل، لكن الأسد جنّب بقراره «تسليم الكيماوي» ضربات كان يمكن أن تطيح نظامه، لذا آثر البقاء على قيد... الحكم من دون أسلحة كيماوية، علماً أن الدوائر السورية أعلنت أنها تمتلك أنواعاً أخرى من أسلحة الدمار الشامل، كذلك أعلنت أن الأسلحة المطلوبة لأي مواجهة موجودة في إيران. وبذلك حدث التحول الأميركي بنسبة عالية، إذ توقفت بيانات البيت الأبيض التي كانت تدعو إلى تنازل الرئيس الأسد عن مقعد الرئاسة، لكن مع ذلك ظل الأسد مسيطراً على مفاصل ومناطق معينة من سورية بأيدي أنصاره من الجيش السوري النظامي، إضافة إلى ذلك فإن عملية التخلص من كامل الترسانة الكيماوية يحتاج على الأقل إلى عام من الآن، وحتى بلوغ نهاية السنة «يخلق الله لكم ما لا تعلمون». ومن مفارقات الأوضاع في سورية وما أكثرها، أن الفصائل المعارضة غضبت لعدم توجيه «الضربة المنتظرة» لنظام الأسد، وفي الوقت نفسه حدثت في الداخل السوري الجغرافي المترامي الأطراف، تطورات هي في منتهى الخطورة، ومن ذلك تحول القتال من معارضي نظام الأسد وقوى الجيش العربي السوري، إلى قتال ضار بين «الجيش الحر» من جهة وأنصار «الجبهات التكفيرية» من «جبهة النصرة» و «دولة العراق - الشام» ومقاتلين آخرين من الذين تقاطروا إلى سورية من كل حدب وصوب وهم ينتمون إلى عشرات الجنسيات، كما تؤكد مصادر مشاركة في هذه العمليات، وهذا التطور يعني أن «الثورة» تم «اختطافها» من جانب القوى المتطرفة، وهذا يمثل تحولاً في مسار الثورة في سورية. وإضافة إلى ذلك، هناك اختلافات تعصف بين فصائل المعارضة بل «المعارضات السورية»، وأعلنت بعض الفصائل عبر «الائتلاف السوري» والمجلس الوطني السوري مقاطعة مؤتمر «جنيف - 2»، الأمر الذي أدى إلى قيام ممارسة الولاياتالمتحدة بالمزيد من الضغوط على هذه المعارضة للتوجه إلى مؤتمر «جنيف - 2» حيث من المقرر أن يتم وضع خريطة الطريق للمراحل الانتقالية وما سيتبعها على الصعيد الداخل السوري. وهناك كلام كثير حول «وحدة هذه المعارضة»، أو بالأصح الانقسامات القائمة في ما بينها، فإذا كانت هذه هي حالها فكيف سيكون عليه الوضع بعد «رحيل حكم بشار الأسد»؟ ونمضي في السياق التحليلي للأمور لنتوقف عند جانب مهم في هذه التطورات الإيجابية المستجدة بين إيرانوالولاياتالمتحدة، ألا وهو مسارعة بعض الأطراف إلى الإعلان عن فشل التوجه الجديد بين إيران وأميركا. وما يجب أن يقال لأصحاب هذا الرأي بضرورة إعطاء هذا الاختراق الجديد بعض الوقت لكي يأخذ مداره ومداه الطبيعيين، إذ نحن نتحدث عن قطيعة وعن علاقات «مريرة» بين الجانبين تواصلت منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، كذلك ليس من المنطق استعجال المراحل والحكم على هذا الانفتاح الجديد والمفاجئ بالفشل. ماذا تتوقع إيران من هذه التطورات؟ لا شك في أن إيران تطمح إلى الإلغاء التدريجي للعقوبات المفروضة عليها منذ ثلاثة عقود ويزيد، وهي تحملت كل هذه السنين وعانت الكثير من تأثير هذه العقوبات. وقد بدأ بالفعل رفع العقوبات عن بعض هذه الشركات التي سترى في الأسواق الإيرانية المفتوحة والمنفتحة الكثير من المصالح التجارية. ومع ذلك، لن ينجو السيد روحاني من أصوات معارضة له في الداخل من الفريق المحافظ أو المتشدد والذي لم يقابل هذه التطورات بإيجابية، بل على العكس فإن بعض التظاهرات التي سارت في بعض شوارع طهران، وفي مدن إيرانية أخرى نددت بما سمّته «تصرفات وممارسات روحاني في نيويورك». ولعل هذا العامل يعيدنا إلى مقدمة المقال من حيث اعتبار أن الطريق بين طهران وأميركا اصبحت سالكة لكنها غير آمنة، بمعنى سعي بعض التيارات في الداخل والخارج من «المتضررين» من هذا التقارب لأن تعمل على الإساءة إلى تحقيق أي تقارب بين الجانبين، مع العلم أن الرأي المرجح يكون دائماً لدى المرشد الأعلى السيد علي خامنئي. ولوحظ في هذا المجال أن الرئيس روحاني وخلال لقاءاته ومؤتمراته الصحافية خلال وجوده في نيويورك، كان يذكّر من حين لآخر بدعم المرشد الأعلى له ولسياساته. وبعد... أولاً: لا شك في أن الانفتاح الإيراني على أميركا وبالعكس خطوة مهمة، واختراق جديد يسجل ل «الديبلوماسية الإيرانية الجديدة» من جهة، وللتوجه الجديد للرئيس باراك أوباما الغارق في مشاكله وشجونه الداخلية. وربما تشهد هذه العلاقات بعض التباطؤ والتردد فهذا من طبائع الأمور، ومع انتقال واقع التعاطي بين طهرانوواشنطن من «واقع اللاعلاقات إلى واقع العلاقات» عامل زمني يجب أن يمر قبل أن تسقط تسمية «الشيطان الأكبر» عن أميركا وتعبير «محور الشر» عن إيران. ثانياً: إن أسباب إعلان بعض الفصائل السورية والمقيمة في الخارج عن عدم رغبتها في المشاركة في مؤتمر «جنيف - 2» يعود إلى حالة عدم التكافؤ في الواقع الميداني على الأرض حيث لا تزال الاشتباكات بين كر وفر. لذلك، ستعمل هذه الجهات إذا استطاعت إلى ذلك سبيلاً على تغيير بعض الوقائع اللوجيستية في الميدان، كي تتمكن من ترجمة مثل هذه الإنجازات في مؤتمر «جنيف - 2»، إذا عُقد. ومن هذا المنطلق ربما ستشهد المناطق السورية تصعيداً في العمليات العسكرية في شتى أنحاء سورية كي تتمكن من المشاركة في مؤتمر جنيف وإلى جانبها «بعض الإنجازات». ثالثاً: واستناداً إلى الكثير من المعطيات أكد بعض المتابعين عن قرب من الزاوية الأميركية، ل «الحياة» القول إن «تحولاً جذرياً طرأ على تفكير الإدارة الحالية، وهذا التطور قضى بالتعامل مع الأمر الواقع ورجالاته، قبل البحث في التغييرات المطلوبة». وبموجب هذا التصور الجديد ستضطر الإدارة إلى العمل مع بشار الأسد، وهي التي ما انفكت تطالب برحيله منذ وقت طويل. والأمر نفسه ينسحب على مناطق أخرى في المنطقة حيث الشعار السائد: التعامل مع الأمر الواقع حتى يمكن تغييره! وفي الكلام الأخير: إن مسار طهران - واشنطن سالك بمعنى أنه فتح بعد انقطاع طويل، لكن «غير آمن»، يعني أن الجهات والفئات التي لا يروق لها مثل هذا الانفتاح بين «محور الشر» و «الشيطان الأكبر» ستعمل على الإساءة إليه بما تيسر لها. * إعلامي لبناني