ثمة علاقة ملتبسة بين المثقف والسلطة، وهي علاقة يحكمها الشك والريبة وعدم الثقة وأحياناً التعارض والتناقض. هذه الاشكالية نلاحظها في الصراع التاريخي بين المثقف والسلطة، التي تنعكس في كتابات المفكرين والأدباء والمثقفين منذ أقدم العصور. وكان ابن المقفع قد حدد وظيفة المثقف في اصلاح حال الحاكم والرعية معاً، وهو ما يعكس العلاقة الملتبسة بينهما. أما ابن خلدون فلم يحدد وظيفة المثقف وانما ربطها بالسلطة وحدد دوره في المسافة التي تربطه او تفصله عن السلطان وحاشيته، ولذاك نجده يسخر من المثقف المستقل عن السلطة الذي لا يجد من يطلب منه العلم او النصيحة. وإذا كان كارل منهايم قد أكد بأن كلمة «مثقف» تشير الى دور اجتماعي وليس الى شخصية متكاملة، فإنه حدد دوره كمواطن ينتمي الى هيئة اجتماعية وليس الى طبقة اجتماعية، ومن الاحسن الا يوقف قلمه لترويج نوع معين من الدعاية، وانما معرفة العلاقة بين الوجود الاجتماعي وبين الآراء والافكار التي تكّون المعرفة الانسانية وكذلك شرحها وتوضيحها، منطلقاً من نسبية الحقائق في المكان والزمان. وهو بهذا يؤكد الطبيعة الاعتباطية لتعريف المثقف وضبابية الحديث عنه، بعكس غرامشي الذي أكد أهمية ودور المثقف العضوي في المجتمع، منطلقاً من مشكلة أساسية وجوهرية هي: جميع الناس هم مثقفون، بمعنى من المعاني، ولكنهم لا يؤدون وظيفتهم الاجتماعية في المجتمع، التي هي من اختصاص المثقفين النوعيين من ذوي الكفاءات الفكرية العالية البالغي الندرة اليوم، الذين يؤمنون وينادون بقيم ومعايير الحق والعدالة والمساواة. ويقسم غرامشي المثقفين الى نوعين، الأول هم المثقف العضوي الذي يحمل هموم جميع الطبقات وقضايا أمته وشعبه والذي يستمر في العطاء جيلا بعد جيل، والثاني هو المثقف التقليدي الذي يجلس في برجه العاجي ويعتقد بأنه فوق الجميع. كما يؤكد غرامشي أهمية المثقفين ودورهم الفعال في التغير والتغيير الاجتماعي وصنع المعجزات إذا ما التزموا بقضايا الشعب الاساسية التزاماً عضوياً. تأثر ادوارد سعيد بأفكار غرامشي وطالب بضرورة استقلال المثقف عن السلطة. فالمثقف الحق هو من لديه افكار يعبر عنها لغيره وعليه ان يستمسك بقيم عالية كالحرية والعدالة وعدم قبول الحلول الوسط باعتباره مشاركاً في الحياة العامة كما عليه « تمثيل» العامة في معارضة جميع اشكال السلطة منطلقاً مما يؤمن به من قيم ومبادئ انسانية عامة ومؤكداً ان ينهض المثقف بدور الهاوي وليس المحترف. استخدم فوكو في حديثه عن التقدم الحضاري للغرب مقولة فرانسيس بيكون «المعرفة سلطة»، تلك المعرفة التي تطورت منذ عصر النهضة ونمت خلال عصر التنوير. وبحسب فوكو فلا وجود لسلطة لا ترتبط بنشأة حقل معرفة ولا وجود لمعرفة لا تفترض علاقات سلطة وتبنيها في الوقت نفسه، في حين ربط هابرماس المعرفة بالمصلحة والمصلحة بالسلطة في علاقة جدلية. فالمعرفة، كعلم وتقنية هي أيديولوجيا من أهدافها تبرير سلطة المعرفة. ان اشكالية المثقف لا تنفصل عن اشكالية الثقافة السائدة، واشكالية الثقافة لا تنفصل بدورها عن إشكالية المجتمع، واشكالية المجتمع لا تنفصل عن اشكالية السلطة وايديولوجيتها، فهناك علاقة عضوية وجدلية تربط بين المثقف والثقافة وبينهما وبين المجتمع والسلطة. والمثقف باعتباره عضواً في مجتمع ويكتسب معرفته وثقافته وسلوكه منه، يساهم في إنتاج المعرفة الثقافية ويضيف اليها من انتاجاته الابداعية. غير ان المثقف ليس من الضروري ان يمثل طبقة معينة، فالمثقفون عموماً ينتمون الى فئات وشرائح وطبقات اجتماعية مختلفة، ولكن ما يجمعهم هو كونهم «منتجي ثقافة» وتتحدد وظيفتهم بالدور الريادي الذي يقومون به في الدفاع عن حرية الفكر وازدهاره ومساهمتهم الفاعلة في عملية توعية وتنوير الأفراد وإخصاب معارفهم وتوسيعها مثلما يتحدد دورهم في نوع الثقافة التي ينتجونها والكلمة التي يبدعونها والمسحة الجمالية التي يضيفونها الى عملهم الثقافي التي تضفي عليه «هالته» وأصالته وفرادته. ان وظيفة المثقف ودوره التنويري في المجتمع لا يمكن ان تكون فاعلة إلا باستخدام المنهج النقدي العقلاني الذي يقف ضد الامتثال والوصاية والتبعية والتهميش. وبمعنى آخر وجوب استخدام المثقف لمنهج نقدي يربط الفكر بالممارسة العملية ربطاً جدلياً، داخلياً وليس سطحياً، وهي مهمة المثقف النوعي مثلما هي مهمة المثقف التنويري المتحرر من الوصاية. ان العلاقة الملتبسة بين المثقف والسلطة تنتج هاجس خوف يستولي على المثقف من السلطة ومن الذات وكذلك من الآخر، وحتى من الحرية نفسها. كل ذلك يعمل على اعاقة المثقف عن تحقيق ذاته، يخاصة إذا كان تابعاً للسلطة، لأن الدولة التي تحتكر كل شيء توصد في وجهه الابواب. ودور النشر لها ايضاً سلطتها التي تختفي وراء سلطة أكبر من المعايير الخاصة بالنشر والتي ترتبط بالسوق التجارية التي تجعل منه أما تابعاً متحيزاً للسلطة، أو مثقفاً نوعياً يقف في وجه السلطة ويكون مستعداً للتحدي والتضحية، أو ان يهرب الى الرموز والإشارات والتأويلات لإيصال صوته وإسماع صرخته التي بالكاد يرجع صداها أو ان يهرب الى أقرب منفى ممكن. وثمة ترابط جدلي بين السلطة والأيديولوجيا في الانظمة الشمولية ولا يمكن فهم هذه العلاقة وتحليلها إلا في حالة هيمنة الدولة على الثقافة وأدلجتها وتوجيه العلاقات الفكرية والاجتماعية والسياسية حسب مصالحها. بحيث يتحول النشاط الثقافي الى ما يخدم مصالحها وتحقيق اهدافها من طريق تشكيل مؤسسات وأجهزة ادارية تستطيع توجيه «الرأي العام» نحو رؤية ذات بعد واحد تقوم على احتكار المعرفة والثقافة وتوجيهها. وهو ما يقود في الاخير الى نفي الآخر المختلف وإلغاء وجوده. وهذا يستدعي منها ايضاً تحويل «المثقف» الى داعية وقولبته وفق أيديولوجية السلطة الحاكمة التي تنتج الثقافة والمثقف في آن. وحين تهيمن الدولة على الثقافة وتتسلط على المثقف يتحول المثقف بدوره الى متسلط من جهة والى مقموع مهزوم من جهة أخرى. على المثقف الذي يريد تحرير ذاته من أسرها ان يمارس دوره التنويري بحرية في نقده المركب: نقد الموروث القديم وتفكيكه، نقد الوافد الجديد وفرزه، ونقد الواقع المعيشي وتحليله، بمعنى آخر نقد الفكر ونقد المجتمع والسلطة معاً، على الا يشكل النقد عنده، سلطة تصدر احكاماً اخلاقية مسبقة او تعسفية مطلقة، والا يكون أداة بيد أي سلطة.